23 كانون الأول 2008 العدد 12775 السنة 37
كان المجلسُ يومها، في إحدى دول الخليج، من شعراء ومن قادري الشعر. ووصل الحديثُ الى الشعر في لبنان ومُغايَرَتِهِ عمَّا في سواه، فانبرى أحدُهم بِحماسةٍ طوباوية يستشهد بعبارة من أمين نَخلة في “ذات العماد” (ص 67 من طبعة “دار الكتب”- بيروت 1957) جاء فيها: “إذا جاءَ الشّعرُ، فإياكَ واللبنانيين! هؤلاءِ مَجبولون من مادّة الشعر، مَصُوغةٌ من نسجِه أفئدتُهم، مَحبوكةٌ بِخَياله خواطرُهم. لَهُم جبلٌ، ولَهُم بَحرٌ، ولَهُم فصولٌ معتدلة، وسَماواتٌ وغمائمُ وحياضٌ وأهويةٌ عاليةٌ تأخذ برؤوس الشجر. ولو كانت لَهم أدواتٌ يُستعانُ بِها على الإجادة في الكلام، كما لَهم من طبعٍ وفيضِ وسَنِيِّ معنىً، لَمَا طلعَت شمسٌ في مشرقٍ أو مغربٍ على أشعرَ منهم في غَزَلٍ وأفانينِ قول”.
واستشهدَ آخَرُ ببيتين من قصيدة أمين نخلة الى “مهرجان أبي تمام” (في دمشق):
أَفسِحُوا في مَحفَل الشّعر لنا نَحنُ من لبنانَ من عَليا الدُّنى
إن يَكُنْ غَـنّـى أبو تَمّامِكُم فاسـأَلوا عن شَدوِهِ لبنـانَنا
وتذكّرَ ثالثٌ بين الحضور مقطعاً من مُحاضرةٍ للباحث الدكتور إحسان عبّاس جاء فيه: “للبنانَ طبيعة مُختلفة، بِجبالها ووِهادها وَتَنَوُّعِها المدهش، انعكسَت في نتاج أدبائه وشعرائه فجاء هذا النتاجُ قريباً من النتاج الغربِيّ الوسيع، مُختلفاً عنه لدى سواه من دول العرب. لذا لا يُمكننا أن نكتُبَ مثلَهم. إنّهم نسيجٌ خاصٌّ لا يشابِهُهُ مثيل”.
وحاول المشاكسةَ بين الجالسين مَن راح يتأفَّف من هذه “الشوڤينية” اللبنانية المنحازة الى طبيعة لبنان ونتاجه الأدبي (الشعريّ خصوصاً) فأَلقمه رابعٌ مقطعاً من خطبة أدونيس في افتتاح متحف الياس أبو شبكة (زوق مكايل – 11/6/2008) جاء فيه: “أبو شبكة من جيل شعراء كانوا، في بلدهم الصغير لبنان، رمزاً كبيراً لِهذه الأرض الشعرية العربية، ولأرض الحلم العربِيّ. إنّ لبنان، الصغيرَ في عدد سكانه، كبيرٌ في عدد شعرائه. ففيما نَعُدُّ اثنين أو ثلاثة بين الشعراء الكبار في أكبر بلدٍ عربي، نستطيع أن نَعُدّ عشرةَ شعراء كبار أو أكثر في لبنان، أعطَوا لبنان هويةً شعرية لا نَجدُها في الطائفة ولا التجارة ولا السياسة، بل في الإبداع الثقافي فكراً وفلسفة، أدباً وشعراً، تصويراً ونَحتاً، موسيقىً وغناءً. كانوا يعرفون أن الصخور في مداراتِهم أكثر عدداً من السفُن، وأنّ الحواجز قد تكون أكثرَ عدداً من العابرين، غير أنّهم كانوا دائماً يُبحرون ويَعبرون. أولئك المبدعون حفروا ويَحفرون اسم لبنان في جسد اللغة نفسها، أسّسوا لِهويّة لبنان المنفرد المتضامن، فخرجوا به من حدود الطائفة والمذهب، وفتحوا هذه الحدود على الإنسان، فبدا لبنان في هذا الشعر كأنه مسكون بالكون كلّه”.
* * *
هذه الشهادات، وخصوصاً من غير اللبنانيين، تعطي هوية لبنان بُعداً آخر، مساحةَ إبداعٍ أُخرى، تَجعلُ من لبنان دولةً صغيرة بدِيْموغرافياها وجغرافياها إنّما وطناً كبيراً بِمبدعيه، وخصوصاً في الأدب، وعلى الأخصّ في الشِعر الذي، حين يكتُبُه اللبنانيون، يَخرجون به – في معظمهم – عن مألوف القاموس الشعري واللغوي (مع كل احترامهم ذاك القاموسَ) ليُجدّدوا في جسمِ اللغة ونسيجِها وأَبعادِها وحتى في مراميها، فلا تعودُ اللغة معهم وسيلةَ تعبيرٍ بل غايةَ إدهاشٍ وسِحرٍ بين الجماليا والجمال.
وليست مصادفةً، بل حقيقةٌ مَحفورةٌ في الزمان، أن يكون اللبنانيون ركائز النهضة في العالم العربي، ماضياً وراهناً، وأن تكونَ الصحافة العربية (منذ قرن ونصف القرن حتى اليوم) قائمةً، في حيِّزٍ منها كبير، على أقلام لبنانيين إن لم يكونوا شعراء فعلى الأقل طالعون من أرومة الشعر التي تغذّي نُسْغَها الأُعجوبةُ اللبنانية.