16 كانون الأول 2008 العدد 12768 السنة 37
ذات ليلة صيفية من 1978، كنتُ أمشي على شاطئ البحر مع صديقي المعتبَر رائد “قصيدة النثر”. وأَخذَنا الحديث تلقائياً الى الشعر، وأنا نقيض صديقي ذاك، باعتمادي الكلاسيكية في القصيدة، موزونها والعمودي، تفعيلةً أو مدوّرة، فيما هو انفلتَ من الوزن الى “قصيدة النثر” التي له فيها مطالعات ومرافعات. فجأةً، توقَّف عن المشي، رمى نظره الى البحر الذي كانت تتلألأ على صفحته انعكاسات القمر فتتكسّر أشعته رذاذاً بلّورياً جميلاً، وسأَلني من دون أن ينظر إليّ: “أتستطيع، أنت، دائماً أن تُطوّع المعنى والصورة والفكرة والبثّ والشعور للبحر الذي تكتب على وزنه القصيدة”؟ وكان جوابي من دون تردُد: “وأيُّ فضلٍ لي إن لم أفعل؟ وهل أكون، إن لم أستطع، إلاّ نظاماً كمئات نظامين يَختبئون خلف الوزن والبحر والصدر والعجُز، لينظموا كلامهم ويسمونه شعراً، وهو نظم أجوف ليس في قصيدته بيت شعر واحد”؟ عندها استرجع صديقي عينيه من وساعة البحر وركّزهما على وجهي (ولا أزال أذكر تلك اللحظة التي صدمَتْني) وقال: “أنا أحسدكم، أنتم من تكتبون الشعر الموزون وتطوّعون للوزن كل ما تريدون أن تقولوه. لو انني متمكّن من الوزن مثلكم، لَمَا كتبتُ قصيدةً واحدة غير موزونة”.
هزّني، ليلتها، ذاك الجواب من صديقي الذي هو أحد كبارنا في النثر وكذلك في ما يسميه هو “قصيدة النثر”، ولم أنشر هذا الكلام قط، خوف إحراجي إياه، وهو الرائد الكبير في هذه الموجة التي لا تزال حتى اليوم في ربيعها، رغم إساءات كثيرة تتصوّب إليها من دخلاء قاصرين يستسهلونها كي ينعم واحدهم بلقب “شاعر”.
والأُسبوع الماضي، خلال جلسة أدبية كان فيها صديقي الآخر شوقي أبي شقرا، وهو مَن هو كذلك في صدارة ما يسمى بـ”قصيدة النثر”، وله فيها مَجموعاتٌ أثبتَت حضورها القوي وركّزَتْها في ذاكرة الشعر العربي المعاصر، دار الحديث على الشعر فذكرْتُ لشوقي استساغتي مَجموعتَيه الأُولَيَين “أكياس الفقراء” و”خطوات الملك” (وهما من شعره الكلاسيكي أو النيوكلاسيكي إنما الموزون أو الْمُبقي على التفعيلة) وأردفتُ استساغتي بسؤالي إياه لماذا تَخلّى عن الوزن، فكان جوابه صاعقاً (كجواب صديقي الآخر قبل عشرين سنة). قال لي شوقي: “حين شعرتُ بأنّ الوزن لم يعُد يطاوعني ويُلبّيني، هجرتُهُ متفلّتاً من قيود بُحوره الشعرية والتجأتُ الى رحابة النثر”. استأْذنتُ شوقي بنشر هذا الجواب، فلم يُمانع، لذا أَنقل كلامه الحرفي، وأشكره على سماحه لي باستعادة كلامه، لِما له، في عُرفي، من مدلول أن يصدر، عنه وعن صديقي الآخر قبل 20 سنة، هذا الكلام عن الوزن الذي “يهجُرُه” مَن يرَون أنه “لا يلبّيهم” و”يلتجئون” الى النثر، يَصوغون منه أشكالاً وصيغاً يدعونها مرةً “الشعر الحديث” ومرةً “قصيدة النثر” ومرةً “الشعر المنثور” (كـ”هتاف الأودية” لأمين الريحاني، أخْذاً عن ووردوورث الأميركي وسواه)، ومرةً “القصيدة النثرية”، وتسميات أُخرى تنحو بهم دوماً الى هيكل الشعر كي يَحمل واحدهم لقب “شاعر”، مع أن النثر ليس أبداً أقل شأْناً من الشعر، ولا هو بالفن الأسهل من الشعر، ومن “يَمتطيه” ولا يكون فارسه يقع عنه الى درْك بلا قرار.
وحين نتذكّر أن أراغون نفسه (رائد الشعر الحديث في فرنسا) عاد في قصائده الأخيرة الى الوزن، نُدرك أن الوزن ليس “موضة عتيقة” يلبسها جدُد، بل هو جديد دائم يضبط الإيقاع الخارجي كي يسكن الشاعر داخلَه في إيقاع ينصاع لضوابط تصقل إبداعه (كلُّ فنّ بلا صقل ولا ضوابط، ينهار ولو طالت “موجته”)، وإلاّ بقي خارج الشعر والنثر معاً، وسرعان ما تَحمله “الموجة” الى رمل الشاطئ تتكسَّر به ولا ترحمُ أنه امتطى قدسيّة النثر وأنكرها مدّعياً الشعر، فبقي خارج الصنعتَين معاً.