2 كانون الأول 2008 العدد 12756 السنة 37
حين صدر كتاب “أَبواب خلفية” (2004) للشاعر اللبناني شوقي بزيع كان مرافعةً قوية ودامغة عن النثر جاءت من شاعر متمكّن، لتثبيت النثر -أيضاً وأيضاً- فناً كبيراً عالياً يستسْهله العاجزون فيسقطون في أفخاخه، ويستلّه القادرون (ومعظمهم من الشعراء) فيصقُلونه ويرقَون به إبداعاً فتّاناً أين منه الكثير من الشعر.
واليوم، مع صدور كتاب “هجرة الكلمات” (ثاني كتاب في النثر للشاعر شوقي بزيع) تترسّخ أكثر فأكثر قناعةُ الشاعر بأن للنثر “سبيلاً يرفعه الى تُخومه القصوى مُتَوئماً بين الحرية والهندسة وبين قوة المعنى وبَهاء الإيقاع” (من المقدّمة، في الكلام على إعجاز القرآن الكريم). وأصاب شوقي، كثيراً أصاب، في تصوير النثر “يتقدّم الى ساحة الكتابة عارياً من كل شيء (كذهب الأوزان وأقراط القوافي)، عارياً إلاّ من معدنه الأصلي وقوة انبثاقه”.
وانطلاقاً من قول الشاعر الأميركي الكبير توماس ستيرنز إليوت (1888-1965) أنْ “ليس من شاعر حقيقي إلاّ من هو سيّد في النثر كذلك”، يَثبتُ (كما يقول شوقي بزيع في مقدمة كتابه) أن ارتياد النثر هو “السباحة في أوقيانوس اللغة الهائج من دون أشرعة مقفّاة ولا قوارب موزونة يستخدمها بعض الشعراء النظّامين للنجاة من الغرق”.
هكذا إذاً، لا يدافع عن النثر ناثرون (عاجزون عن الإبداع الشعريّ) بل يعرف شأنَه العالي شعراء مُجيدون متمكّنون من النسيج الشعري وارتياد القصيدة (الصَّعب والْمُضني) لـ”يُبَشّروا” بأن النثر، هو أيضاً، لغةٌ خاصة داخل اللغة، وأنّ فيه درجات تتفاوت بين السَّرد العادي (نَصّ صحافي، تقرير مسطّح، كلام عادي في رواية أو قصة، …) والصياغة المشغولة (نص أدبي، خُطبة بليغة، …) والنثر الفني الجمالي (إعجاز رائع في النحت اللغوي شكلاً وعالي مضمون)، تَماماً كما في الشعر درجاتٌ تتفاوت بين النَّظم الأجوف (المتلطّي وراء العمود الشعري ولا شعر فيه)، والشعر المنظوم (المنضوي في قواعد العروض والقافية والرَّويّ والتفعيلة والصدر والعَجُز والبحور،… لكن الومضات الشعرية فيه قليلة)، والشعر الشعر (الذي تَختفي فيه قواعد العروض كما تَختفي مرساة السفينة في قعر البحر كي تُبقي السفينة جاثمة على صفحة البحر بـهَيبَتها وجَمالها فيراها الناظرون جميلةً مستقرّةً ولا يرَون المرساة التي تَجعلها بـهذَين الجمال والاستقرار، تماماً كما قواعدُ العروض تَختفي عن قارئ الشعر الشعر أو سامعه، فيستمتع هذا بتذَوُّق القصيدة ولا ينتبه لصلابة القواعد ومتانة التشدُّد بـها وبراعة الشاعر في استخدامها مرساةً لا عرضاً، لإيصال قصيدته رائعة خالدة في ذاكرة الشعر.
لا يُعطى لكل شاعر متمكّن أن يكتب نثره بالتمكُّن ذاته، ولا لكل ناثر كبير أن يُبدع في الشعر إبداعَه في النثر. وفي التراث العربي شعراءُ مُجيدون حين خرجوا من حالة “القصيدة” كتبوا نثراً عادياً تقريرياً لا لَمعة فيه، وناثرون مُجيدون قاربوا الشعر فظلّوا نثريين في قصائدَ لهم لم ترتفع لَمعة واحدة عن النظم. علامة الشاعر الشاعر أن يُنسيك النظم في قصيدته، وعلامة الناثر المبدع أن يُهدهدَك نثرُه برعشة الصياغة. من هنا هَيبةُ الإبداع التي تفرضها القصيدة (في الشعر) والنضيدة (في النثر). ومن هنا نُدرة مَن يتمتَّعون بنعمة أن تفتنَك قصيدتُهم الشعريةُ بقدْرما تفتنك نضيدتُهم النثرية.
الشاعرُ، كما الناثر، عليه أن يكون فارسَ لُغَة. ومن كان فارسَها أطاعتْه اللغة لقصيدته ونضيدته معاً، موقنةً أنه سيُطلع منها، شاعراً أو ناثراً، تُحفةً فنية مشغولةً بـمخاض ولادة يتطلّبه كلُّ نص إبداعي.
والمجد دائماً للإبداع، شعراً ونثراً، حين يصوغُهُ مبدع خلاّق.