18 تشرين الثاني 2008 العدد 12742 السنة 37
تسنَّى لي، الأُسبوع الماضي، أن أحضر في جامعة بيروت العربية مُحاضرة لافتة للدكتور زاهي حوّاس (كبير خبراء الآثار في مصر) يتحدَّث عن آخر اكتشافاته في باطن تراب القاهرة، واكتشافاته حدَثٌ مهمٌّ في الأركيولوجيا المصرية، قد يبلغ فيها (كما قال) حـدَّ أن يكتشف سرّ بناء الأهرام، اللغز التاريخي الذي لَم يبلغه أيُّ عالم آثار، وكان قبل أسابيع اكتشف مومياء “توت عنخ أمون” الأصلية، وأخذ يعمل على تشريحها وكشف أسرارها بدءاً من تَحاليل الحمض النووي.
العمل الصادر عن زاهي حواس (61 سنة) يوحي دوماً بالثقة، لا بكونه سابقاً “مدير آثار الجيزة” (بكل ما تعنيه منطقة الجيزة من عنوان تاريخي عظيم)، ولا بكونه حالياً “الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار” في مصر، وربما لا باكتشافاته الكثيرة (مقابر العمال بناة الأهرام، وادي المومياءات الذهبية، مقبرة حاكم الواحات البحرية وأسرته،…) أو بتآليفه العديدة، عربيّها والإنكليزي (“أبو سمبل”، “معابد الشمس المشرقة”، “سيدة العالم القديم”، “بُناة الأهرام”، “معجزة الهرم الأكبر”، “وادي المومياءات الذهبية”، “أسرار من الرمال”، …) أو بكون مجلة “تايم” الأميركية اختارته واحداً “من أهم 100 شخصية في العالم”، أو بكونه أستاذاً جامعياً مُحاضراً (جامعة لوس أنْجلوس، الجامعة الأمريكية في القاهرة، …) بل بكونه لا يتصرَّف من وراء مكتبه الوظيفي إنما يقود هو حملات التنقيب، بشغف يَقودها، ويقودُها بإيمان من يريد أن يكشف للأجيال الآتية، بعد عقود وأجيال، ما في أرض بلاده من كنوز هيَ هيَ عنوان بلاده، لا أية مرحلة عابرة زائلة من مراحلها السياسية، أياً يكن الازدهار السياسي والأمني في فترة ما، من حكم ما، في مصر. يريد أن يكشف من باطن الأرض ظاهر الوطن الحقيقي وكنوزه التاريخية.
وفي رحلتي الأخيرة الى القاهرة (قبل أسابيع) زرتُ “المركز الثقافي القومي” وجناح دار الأُوبرا فيه، وَلَفَتَني في ركن مُخصَّص لدار الأوبرا القديمة – التي بناها الخديوي إسماعيل (18/1/1830- 2/3/1895) متوّجاً سنوات عهده (1863-1879)- كيف كان بناؤُها (1969 لمناسبة الاحتفالات بالانتهاء من شق قناة السويس) حدَثاً طبع ولاية اسماعيل (16 سنة) بهذا العمل المضيء. ويندر (جدّاً حتى التلاشي) مَن يذكُر للخديوي اسماعيل عدد الحكومات على عهده أو مراسيمه الخديوية.
من هنا أن مصر، بتاريخها العريق الممتدّ آلاف السنوات منذ فجر التاريخ الجليّ، مُدركةٌ تماماً عمقَ الكنوز في ترابها وفوق ترابها، أهمّ من إدراكها مَن يمشون فوق التراب من سياسيين وحكام ومسؤولين يأتون ويرحلون كما يطوف الزبد على صفحة البحر، مُرغياً لَمّاعاً مبهرَجاً يشعشع في نور الشمس فيلفت الأنظار ويُرهف الأسماع ويثير الكلام والجدل والنقاشات والاصطفافات منه ومعه أو له وعليه، لكنه سرعان ما يقترب من الشاطئ فيبتلعه رمل الشاطئ ويَغوص، هو وإرغاؤُه وإزبادُه والتماعاتُه وبهرجته وشعشعاته وما أثار من أنظار وأسماع وكلام وجدل ونقاشات واصطفافات، يَغرق يَغرق بين حصى الرمال.
قَدَر السياسة هكذا: أن تكون عابرة زائلة. وقَدَر السياسيين هكذا: أن يكونوا زائلين في زمان زائل(عدا استثناءات قليلة من “رجال دولة” استثنائيين، لا “رجال سياسة” يثيرون غبار الأحداث وينتهون الى التلاشي كما يتلاشى الغبارُ مهما علا وطال).
وإذا كان قدَر السياسة أن تولدَ اليوم لتموت في اليوم نفسه (بسبب المتغيرات)، وقدَر السياسيين أن يولدوا يوماً ليموتوا ذات يوم، فقدَر الإبداع (فناً أو علْماً – والآثارُ علْم رئيسٌ بين العلوم) أن يولَد يوماً ليبقى كل يوم الى خاتمة الأيام.
فطوبى للإبداع في كل وطن، لأنه هو (لا السياسة ولا أقطابُها) عنوانُ الوطن، والمجدُ للمبدعين ينطفئُ النور في عيونهم ذات لَحظة، ليَكتُبوا بإغماضتهم انفتاحَ النور في وطنهم الى أقصى امتداد النور.