28 تشرين الثاني 2008 العدد 12721 السنة 37
ظلَّت طويلاً (منذ زارتْهُ قبل سنوات غير ضئيلة) تذوق جمالاته فتنعكس هذه في أحاديثها وانطباعاتها وشغفها بزيارته، الى أن اتّخذت لها في ربوعه مستقَرّين اثنين هما في انتظارها الدائم كي تعود، وهي مراراً تعود بفرح الإياب وشوق اللقاء.
غير أنّها لم تكتف بانطباعاتها شفاهةً، فقرّرت استخدام تعبيرها الآخر: الريشة. وحين انطلقت في هذا السبيل، انقادَت إليها أشكالٌ وألوانٌ وخطوطٌ انصاعت طيّعةً لريشتها تنقل الى المساحة البيضاء من القماشة مساحات حمراء مدمّاةً من النسيج اللبناني كما عرفتْه هي في الأزمنة اللبنانية الصعبة. وما أوجعَ ما عرفهُ لبنان من حروب متعاقبة متتالية دمّرت فيه البنيان وضربت جماليا عقل الإنسان، في مشاهد حرصت هي، بريشتها، على تَجميدها في الزمان فجاءت لوحاتها ترجمة صادقة لمشاعر الأصابع التي تُنَقّط الحب على أهداب ريشة.
وإذا كانت في بعض لوحات معرضها الحالي “لبنان في عيون كويتية” (قصر الأونسكو- بيروت – 23 الى 28 الجاري) مسحةُ حزن وأسى من لبنان، فلأنها رأته، حين رأته، على هذه الصورة الموجعة من مشاهد البؤس والخوف وأوضاع عرفَتْها هي وعانت منها ومرت مراراً خلالها بين الخطر والخطر. وكان يُمكن أن تَخرج من لبنان ولا تعود إليه (كما بعض أبنائه)، غير أنها اختارت أن تبقى فيه وفيّة له، من دون أن يضعف ولاؤُها لوطنها الحبيب الأول الكويت.
هكذا، لصدقها في التعبير، ورفْضها تَجميلَ ما ليس جَميلاً، وتصويبَ ما كان خطأً (كي يظلّ اللبنانيون يتذكَّرون كيف تَشَوَّه وطنهم الجميل الرائع الفريد، كما هي عرفَتْه وأحبَّتْهُ وتعلَّقَتْ به) أدَّت ريشتُها الصورةَ بأمانة، فكانت لوحات معرضها صورةً لا عن وضع مأساوي كان في لبنان بل عن صدقها هي في نقل ذاك الوضع بكامل قسوته ومرارته ومأساويته أحياناً كثيرة، ليكونَ لبنان في عيون كويتية هو لبنان الذي كان ويَجب ألاّ يعود، لذا جَمَّدَت ريشتُها في الزمان لحظات الوجع، فلا يلتفت الزمان الى الوراء إلاّ ويرى على ريشة سكينة الكوت ما اقترفَتْه الوحشية في شعب لبنان.
وإذا كان لبنان هكذا، كما رأتْهُ كلما كانت تراه، فكيف يُمكن ريشتها الصادقة أن تكون غير ذلك؟ وما الضير في أن تنقل الريشة ما يكون كما يكون، حتى ولو خرج لبنان اليوم من دوامة عنف تضربه كل فترة تلقّت الفنانة ضرباته عن كثيرين؟ أليست “غيرنيكا” بيكاسو صورة قاسية عن الحروب الداخلية الإسبانية؟ وها هي “غيرنيكا” اليوم لا تزال تواصل مسيرتها في الخلود مع أن إسبانيا خرجت من دوامة العنف التي تصوّرها “غيرنيكا”.
هذا لنقول إن الفنّ عنوانُه الصدق، وكل صدق لا بدَّ يبلغ متلقّيه. وعلى المتلقي أمام لوحة فنية أن يضع اللوحة في إطارها الزمني والمكاني الذي وضعها فيه الفنان، لا في إطار الزمان والمكان الذي يكون فيه المتلقي أمام اللوحة.
سكينة الكوت، في رقشاتها، صادقةُ الانفعال.
وانفعالُها تَمايُزٌ وتَغايُر.
من هنا أنّها مرآة صادقة للبنان في عيون كويتية.
تَسلَم ريشتُها الوفيَّة.