14 تشرين الأول 2008 العدد 12707 السنة 37
لم يكن مُجَرَّدَ عرضٍ للزوار أمرُ مدير متحف اللوڤر هنري لويريت بِحَمْل 22 قطعة للمبدع الخالد ليوناردو داڤنتشي (1452-1519) يقارب عمرها نَحو 500 سنة (لوحات، رسوم معمارية تفصيلية، أنسجة حسّاسة خاصة للرسم عليها صباغ من يد الرسام) كانت مُخبَّأَةً في قاعة عُليا نائية، وإنزالِها الى قاعة خاصة كبرى تَمهيداً لكشفها أمام فريق من “أصدقاء المتحف” هم “واهبون” (sponsors) لا تقلُّ مساهمة الواحد منهم عن عشرة آلاف دولار، شاهدوا الأعمال ثم انتقلوا الى قاعة مُجاورة أعدَّ فيها المدير، بين تَماثيل ومنحوتات من مقتنيات المتحف، مائدةً تناولوا إليها العشاء وشاركوا بعده في مزادٍ خاص فازوا في نِهايته بإجازاتٍ لدخول المتحف وببطاقاتٍ لِحضور حفلة موسيقية في القاعة الكبرى. وبلغ مدخول المزاد ليلتها 2،8 مليون دولار. وكانت تلك “حجة” من المدير لزيادة مدخول اللوڤر (أكثر المتاحف في العالم اجتذابَ زوّار) وإقناع المزيد من الواهبين (sponsors) لتحسين أجنحة المتحف ورفع مستوى صيانته، علاوةً على المزيد من المداخيل السنوية.
وكان المدير سَمح سنة 2006 بعرض فيلم “شيفرة داڤنتشي” في إحدى القاعات، ما جذب الى خزينة المتحف 2،5 مليون دولار. وبعدها توسَّع المدير النشيط المثقف في زيادة مداخيل المتحف فوقّع عقد صفقة مع إمارة أبو ظبي بِمبلغ 1،5 مليار دولار لإنشاء “لوڤر أبو ظبي” وافتتاحه سنة 2012. وينصّ العقد على أن تدفع أبو ظبي (لقاء حصولِها على اسم “اللوڤر” لديها) مبلغ 630 مليون دولار، والمبلغ الباقي لاستعارة أعمال فنية من لوڤر باريس الى لوڤر أبو ظبي.
وبذلك نَجح هنري لويريت في رفع مدخول المتحف والقيام بِمتطلبات متزايدة تَحتاجها عمليات تَحديثه وصيانته المستدامة، لأنّ الدولة الفرنسية لا تدفع إلا 50% من ميزانية المتحف (350 مليون دولار) وتالياً يبحث المدير عن وسائل ومصادر كان آخرَها افتتاحُ جناح جديد في اللوڤر للفن الإسلامي نَجح في تأمين تَمويل له بقيمة 54 مليون دولار، وباشر منذ نِهاية الصيف اتصالاته بِمتاحف كبرى (الفن المعاصر في نيويورك، متحف الفنون في شيكاغو، …) لِجمع الهبات منها ومن متموّلين أفراد (كحصوله على شيك بِمبلغ 50 ألف دولار من صديق له دعاه الى قضاء “ويك إند” لديه في سنسناتي/أوهايو).
رويتُ هذه المشاهدات لأركّز على ما أردّده دائماً من أنّ “الصناعة الثقافية” ذاتُ مردودٍ ملموس ومرتفع على خزينة الدولة إذا هي أحسنَت إدارتَها وسلّمَتْها الى اختصاصيين في الشأن والقطاع يَمدّون جسوراً ذات صلة، فتزدهر “الصناعة الثقافية” بفروعها المتشعبة (الصحافة، الأدب، السينما، الموسيقى، الفنون المرئية والتشكيلية والفوتوغرافية، الإذاعة والتلفزيون، البرمَجَة الإلكترونية، الدعاية والإعلان) ولا تعود الثقافةُ عبئاً على ميزانية الدولة ووزارةُ الثقافة هامشيةً غير “سيادية” ولا “رئيسية” ولا “خدماتية” (بالتعبير السياسي اللبناني السخيف) فلا يُقبل عليها المستوزرون والمتهالكون على الحقائب الحكومية.
ولأن الأمر كذلك، في هذا العالم العربي الغارق معظمُه في الجهل والأُمية والتعصُّب والأُصوليات والحسابات السياسية الراهنة العابرة الزائلة، يبقى المبدعون في هذه الناحية من العالم شاعرين بأنَّهم ثانويون (في نظر معظم الحكام والسياسيين وأولياء الأمر من مَحاسيب السلطة وأهل البلاط) ويظل إنتاجهم الإبداعي خاضعاً لِمزاجيات الزمن السياسي، وحين يغيبون يغيب معهم تراثهم إن لم يتوفر له من يتولاه على المستوى المعروف من أبسط قواعد حفظ التراث في الغرب الثقيف.
وحده الإبداعُ وحفْظ أعلامه، يَجعلُ الحاكم جديراً بِمرافقة المبدع الى عالم الخلود.
أيها الحكّام العرب: اتّعظوا.