7 تشرين الأول 2008 العدد 12700 السنة 37
لا أُريد أن أُحرج (ولا أَن أُخْرج ولا أن أُزعج) المدمنين على التدخين ممّن قد ينفرون من هذا المقال. لكنني أروي بالضبط ما عاينتُ طوال الأُسبوع الماضي في مونتريال (كندا)، وكنتُ طوال الأُسبوع أتنقّل من فندق الى آخر، من مكتب الى آخر، من دائرة رسمية أو خاصة الى أُخرى، من دعوة رسمية الى أخرى خاصة، من زيارة الى أُخرى، من مقهى الى آخَر، من مطعم الى آخَر، من مَحطة إذاعة الى مَحطة تلفزيون، ولم أُشاهد ولا في أي مكان من تلك، شخصاً واحداً يَحمل سيكارة أو سيكاراً أو غليوناً، ولم أرَ في المطاعم والمقاهي من يُؤَرْكلُون (يُمارسون تدخين الأَرْكيلة في استرخاء أقرب الى “التَّنْبَلَة”). ذلك أن التدخين مُحظَّر في شدّة قاسية زاجرة، والعقوبات صارمة، والبيئة الداخلية نظيفة نقيّة خالية على الأقل من تلوُّث المدخنين.
البيئة! هنا المحور: البيئة، وهذا مَقْتَل العالم العربي. ففي مونتريال سيارات تسير على الكهرباء (تَخفيفاً لتلوُّث البيئة)، وثَمن علبة السكائر باهظ (لتخفيف شرائها)، وسيدة البيت تفصل عن نفاياتها الأوعية البلاستيكية وتضعها في مستوعب خاص فلا يَحصدها عامل النفايات مع سواها لأن رميها يدمّر البيئة (وكم على أرضنا من نفايات بلاستيكية مرمية في الشمس والريح وتَحت المطر، يتشرّبُها التراب وتنطمر بسمومها في باطن الأرض). وفي مونتريال كذلك (كما طبعاً في مدن أخرى عديدة “حضارية” من العالم الحضاري المتمدن) إعلانات توعية وتنبيه الى “إنقاذ البيئة” من سموم الإنسان وتلويثه إياها بألف طريقة وطريقة، غير مدرك أنه يدمّر الكوكب، أرضه وفضاءه، في رعونة منه مقصودة مرات، واعية مرات، ولاواعية عفوية مرات أقل.
على مدخل الفندق الذي كنتُ فيه رأيت شاباً منْزوياً في زاوية خلفية، يَمجُّ سيكارته وعلى وجهه سحنة من “يقترف” عملاً مُشيناً، يتلفّت في كل اتّجاه (مع أن التدخين مسموح – حتى إشعار آخر – في الخارج) ويشعر واعياً أنه كلما يَمُجّ من سيكارته يَمُجّه المارّون أكثر.
وخلال جلسة في مكتب الإذاعة مع زملاء فيها، قال لي أحدهم إنه انصاع مكرهاً في البدء لقرار منع التدخين، ثم اعتاد الإشاحة عن السيكارة، ثم بات اليوم يزايد عليّ في الحملة على التدخين وتلوُّثه وضرره وقرفه. وقال إن الدولة قريباً ستصدر قراراً يضيّق الخناق أكثر فأكثر على المدخنين (حتى في الهواء الطلق) كي لا يزعجوا سواهم ولا يلوثوا البيئة حولهم.
البيئة! فعلاً هنا المحور: البيئة. ذلك أن هذا العالم العربي مُمتدٌّ على وَسَاعة البيئة الملوّثة بجميع أشكالها، وفي طليعتها التدخين. فالمدخّنون العرب يدخّنون في صلافة ووقاحة لا تَحترمان غير المدخنين: في الصالون يدخّنون، في المكاتب يدخّنون، في التاكسيات يدخّنون، في سياراتهم يدخّنون، في كل مكان يدخّنون، وتفوح منهم رائحة النتن المقرفة، من أفواههم ولُهاثهم وثيابهم، وينـزُّ النيكوتين من تَحت أظافرهم ومن بين أصابعهم في مشهد مقرف أين منه إنسان الغابات المهجورة.
في المساء الأخير، قبل مغادرتي الفندق في مونتريال، التقيتُ عند زاوية المدخل (وكان الطقس شديد البرد والريح) رجلاً يدخّن، حيّاني بتهذيب شجّعني على رد التحية بسؤاله إن كان التدخين يستاهل كل هذا العناء في البرد والريح، فأجابني: “لا خيار لي. المدخّنون مطرودون الى الخارج”. قالَها (مطرودون الى الخارج) وتلفَّع بمعطفه، ومجّ من سيكارته جرعة موت جديدة.
بقيَت في بالي صورة التدخين في الخارج حتى وصلتُ الى بيروت، وخرجتُ من الطائرة لأدخل النفق المؤدي الى ردهة المطار الداخلية، فرأيتُ رجل أمْن، داخل الردهة، ينادي على سيدة واصلة معنا في الطائرة، وفي يده… سيكارة.
هذا نَموذج وسخ عن قرف التدخين والمدخّنين على وسع هذا العالم العربي.