23 أيلول 2008 العدد 12688 السنة 37
بعدما غرِقَت أوروبا قروناً طويلة في اقتتالات دينية ومذهبية وسياسية وأمنية، خرجت منها جميعها بقناعة إبقاء الدين في حيثما تَحتصنه مغاني الإيمان (معابد ومساجد وكنائس ومراكز دينية ومذهبية)، وإبقاء السياسة في حيثُما تحتضنها مؤسسات الدولة المدنية، وهو ما سرى بأنه “فصل الدين عن الدولة”، وآلت أوروبا الى العلمنة العقلانية التي لم تُلْغ ملمحاً واحداً من الدين ولا عنصراً واحداً من رجال الدين، بل حافظت على رهبة الدين وهيبته وعظمته ورسالته وطقوسه، داعية رجال السياسة الى الاشتغال في السياسة دون الدين، ورجال الدين الى الاهتمام بشؤونهم الدينية دون السياسة.
بعدما وضُح هذا الفصل بينهما، من دون طغيان أحد العنصرين على الآخر، انصرفت أوروبا الى الثقافة والأعمال الثقافية والأنشطة الثقافية، مُدخلة إياها في صلب الحياة اليومية، منذ طفولة الأولاد، لينشأ الجيل الأُوروبي الجديد على معالم الثقافة، قارئَ كتب، أو مشاهداً مسرحيات، أو مُعتاداً على حضور الأمسيات الموسيقية والأوبرالية والغنائية الكلاسيكية أو الشعبية، أو دارس العزف على آلات موسيقية، وتالياً ابن هذا الجو الموسيقي مُشاهدةً أو عزفاً أو تثقُّفاً مستداماً.
بمعنى آخر: بات للمواطن الأوروبي حق في الثقافة والتثقُّف، يطالب به، ويسعى إليه، بإلحاح أن توفره له الدولة واجباً عليها، وحقاً له، وبداهة يومية لا حياة للمواطن (الأوروبي) بدونها. من هنا، في أوروبا، انتشار المراكز الثقافية والمسارح ودور الأوبرا والكونشرتوات ووسائل الثقافة والتثقيف من كل نوع، ومن هنا ابتعاد المواطنين الأوروبيين (الشباب خصوصاً، والمواطنين في شكل عام، مع لحظ استثناءات لا بدّ منها) عن أيّ تشنُّج سياسي أو اصطفاف فئوي أو تَمَتْرُس حزبي أو طائفي أو مذهبي في وجه فريق آخر، من الوطن نفسه، حزبي أو طائفي أو مذهبي.
ومن الأفلام التي تعرضها شاشات التلفزيون الأوروبية، وفي طليعتها مَحطة “ميتْزو” (لا تبثُّ إلاّ أشرطة أوبرا وكونشرتوات كلاسيكية وما يتصل بها كلّها موسيقياً) يتّضح مدى إقبال الجمهور الأوروبي على هذه الأمسيات والحفلات الموسيقية الراقية العالية العظيمة (بعضها في الهواء الطلق على مساحات واسعة، وبعضه في صالات كبرى مَهيبة)، وهو إقبال كثيف جداً (يسرُّ كثيراً كم فيه من أعداد الجيل الجديد) لا نجده في الدول العربية إلاّ في المناسبات السياسية التي “تنهمر” فيها الجماهير العربية الكثيفة الى الشوارع لـ”تعييش” زعيم سياسي أو للسير في مظاهرات ومسيرات ببغاوية قطعانية تبدأ بتهييصات “بالروح، بالدم، نفديك يا…”، وقد تنتهي بمناوشات مع فريق آخر أو مع رجال الشرطة، فيسقط جرحى وربما ضحايا، ويواصل المجتمع العربي (خصوصاً في الشارع) مسيرته نحو الجهل والتجهيل والجهالة.
ويغنم الزعماء السياسيون العرب، يغنمون كثيراً، من هذه القطعانية الببّغاوية الزبائنية في “الشعوب العربية” كي يبقوا هم على رأس مَجموعات “أغنامية” يسوقونها كيفما وحيثما وعندما وقبلما وبعدما، يُلْقمونها شعارات صدئة تتبناها الجماهير وتعلكها وتلوكها، مبتعدةً أكثر فأكثر عن كل ملمح ثقافة وتثقف وتنوير يجعلها تستيقظ على هول الفراغ الذي تعيش فيه فتنقلب عندها على الذين “فوق”. لذا من صالح الحكّام العرب (في معظمهم) إبعادُ “جرثومة” الثقافة عن شعوبهم، و”جرثومة” التثقُّف عن أجيالهم الجديدة، و”جرثومة” التثقيف عن مفاصل الدولة، كي تبقى الشعوب قطعاناً تسير ولا تحاسب.
وحدها الثقافة التنويرية توقظ الشعب على المحاسبة.
فمتى تنهض من “أغناميتك الببغاويَّة”، أيها الوطن العربي ؟؟؟