16 أيلول 2008 العدد 12681 السنة 37
حين جاء طه حسين الى بيروت قبل نحو نصف قرن، وشهدَ ما فيها من نشاط ثقافي متقدّم، قال عبارته الشهيرة: “لقد انتقلت الساحة الأدبية من القاهرة الى بيروت”. فصدر في الصحافة اللبنانية جواب سريع عن هذا القول (على ما فيه من نبل كريم من طه حسين): “بل عادت الساحة الأدبية من القاهرة الى بيروت”.
ذلك أن النهضة الأدبية والصحافية التي ازدهرت في القاهرة خلال الرُّبع الأخير من القرن التاسع عشر (مع جرجي زيدان وأنطون الجميل وسليم وبشارة تقلا ويعقوب صروف وفارس نمر وخليل مطران وسواهم) جاء أعلامها من بيروت بسبب ما كان للسلطنة العثمانية فيها (وفي كل لبنان) من ضغط وقهر وكبت وتصفيد الحريات. وحين انهارت السلطة العثمانية وتنفّست المنطقة هواء الحرية (مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى سنة 1918) ودخول لبنان عهد الانتداب الفرنسي الذي حمل معه انفتاح فرنسا ونهضتها) نهضَت بيروت من”عَثْمَنَتها” واستعادت حضورها ولا تزال، رغم ما تعاقَب عليها من شلالات موت وحروب وأحداث دموية ودمار، تعود منها جميعها شَمساً تَحجُبها أشدُّ الغيوم كثافةً ودخاناً لكنها لا تطفئها، ولن !
هذا القدر الأُعجوبي لبيروت (ومنها لكل لبنان) بات بداهةً عربيةً غير خاضعة للنقاش، بإقرار إجماعي من الأوساط العربية، رغم ما في بعضها من شوڤينية انفعالية لا تلبث أن تنهار عند الأرقام والوقائع.
فليس من المصادفة، ولا من الهوى الرومنطيقي التنظيري عن بُعد، أن يكتب شعراء العرب في معظمهم قصائد لبيروت ولبنان، وأن يكتب أدباء العربية مقالات وكتباً وانطباعات عن بيروت ولبنان، وأن يسعى التشكيليون العرب أن يعرضوا لوحاتهم أو منحوتاتهم في بيروت ولبنان، وأن يعمل المؤلفون العرب على نشر كتبهم في بيروت، وأن ينطلق الى الشهرة مبدعون عرب بعد وقوفهم على منابر بيروت ومسارح بيروت ومهرجانات بيروت الأدبية أو الفنية ووسائل الإعلام في بيروت.
مرةً أخرى: لا نقول هذا تشاوُفاً ولا شوڤينياً، بل نقوله لنسجل الوفاء النبيل للّذين، في العالم العربي، يقرّون بدور بيروت ووهجها، على ما فيها من ضآلة حجم ديمغرافي وجغرافي (على صورة لبنان)، عكس بعض (ولو قليل) ينكر عليها ذلك ويرى لديه هو ذاك الوهج.
غير أن الصوت العالي لا يغلبه نقيق. والصوت العالي قطفتْه بيروت من الكبار. فهذا محمد الفيتوري، في مهرجان الأخطل الصغير (بيروت 1969 في قصر الأونسكو) يُقرّ في نبل: “أنتَ في لبنانَ والخُلْدُ هنا، والرّجالُ العَبقَريُّونَ أقاموا… حَمَلُوا الكونَ على أكتافهم وَرَعَوا غُربتَه وهو غُلامُ… أنتَ في لبنان، والشعر له في ربى لبنان عرش ومقامُ”.
وقصيدة بيروت لنـزار قباني لن تطفئها الأيام بعدما باتت أغنية أطلقتها آهات ماجدة الرومي.
والقصيدة الجديدة من الدكتور سعاد الصباح عن بيروت سجَّلت في الزمان وفاءها الرائع النبيل: “آتي الى بيروت كي ألقى صديقي الشِعرْ… آتي لكي ألقى صديقي البحْر… فعندما تغيبُ بيروت فلا قصيدةٌ جميلةٌ نسمعُها أو قطعةٌ من نثرْ… وعندما تغيبُ بيروت عن العين، يغيب العمْرْ”.
هذا الحب الكويتي لبيروت، وتوسُّعاً: هذا الحبّ العربي لبيروت، شهادةٌ على أن هذه المدينة/العاصمة ليست مَغْنى اللبنانيين وحسب، بل موئل كل عاشق حرية الكلمة التي لا تَخنقها حرب ولا تطفئها عاصفة.
وهنا أعجوبية هذه المدينة الأعجوبَة: بيروت.