2 أيلول 2008 العدد 12667 السنة 37
لا يضمن الحاكم العبقريُّ ديمومته وبقاءه في ذاكرة الزمان إلاّ إذا رعى على عهده النهضة الثقافية.
عن سعيد عقل قوله إن “الحاكم الذكي يوصل شخصه الى الحُكْم، والحاكم العبقريّ يوصل بلاده الى النهضة”.
و”النهضةُ” هنا ليست سياسية ولا أمنية ولا اقتصادية (فهذه عوابر تلتمع في زمنها ثم يأتي زمن آخر يَمحوها) بل هي النهضة الثقافية الإبداعية التي تشُع في زمنها وتبقى خالدة على كل زمن لاحق، تتواتر مفاعيلُها وتذكُرها كتب المؤرخين والدارسين والباحثين في كل عصر لاحق، ناسبينها الى الحاكم الذي أنشأها أو رعاها.
فليس مَن يَذكُر للمأمون حالة بغداد السياسية والأمنية والاقتصادية إلاّ فُتاتاً، بينما التاريخ حتى اليوم يذكر أنه أبو “دار الحكمة” التي أطلقت نَهضة الفكر والأدب والترجمات والعلوم ما جعل العصر العباسي نَجم التاريخ العربي.
وليس مَن يَذكُر لـ”الملك الشمس” (لويس الرابع عشر) عدد المراسيم الملكية التي أصدرها، ولا عدد الشوارع التي أمر بشقّها أو ترميمِها، لكن التاريخ الفرنسي حتى اليوم يذكر أنه “أبو قصر ڤرساي” الذي فتحه الملك أمام نَهضة موسيقية ومسرحية وأدبية لا تزال شعلة القرن السابع عشر الفرنسي الذي يوسم بكلمة واحدة “النهضة” (“رنيسانس”).
وليس مَن يَحفظ للخديوي اسماعيل ما حقّقه لبلاده من عمران بنائي وحالة اقتصادية، لكن التاريخ المصري يذكر مفتخراً أنه “أبو دار الأُوپـرا”، وأنه الحاكم الذي أوصى المؤلف الموسيقي الكلاسيكي الإيطالي جيوزيپي ڤيردي على عمل موسيقيّ لمناسبة الاحتفال بانتهاء العمل في شق قناة السويس، فوضع ڤيردي أوپـرا “عايدة” الشهيرة. واليوم: مات ڤيردي ومات الخديوي اسماعيل ولا يذكر إلاّ القليلون تاريخ الانتهاء من شق قناة السويس (1869)، لكنّ التاريخ يذكر حتى اليوم أن الخديوي إسماعيل كان وراء إنشاء دار الأُوپـرا (مفخرة مصر) ووراء وضع أوپـرا “عايدة”، وبذلك ضَمِنَ إسماعيل ذكر اسمه (حتى اليوم) في جميع الكتيِّبات الموزّعة عن أوپـرا “عايدة” في أي بلد يَشهدُه مسرحُها وفي أيّ لغة من لغات العالم.
فما أهنأ خلود الحاكم العبقري الذي يرعى نَهضة بلاده الإبداعية، لأنه يضمن خلوده بخلودها.
وما أتعس حاكماً يُمضي ولاية حكمه بتشكيل حكومات وإجراء انتخابات وإصدار مراسيم وتشريعات. ذلك هو الحاكم الذَّكي الذي يعرف كيف يوصل شخصه ويبقى في الحكم طالما يساعده ذكاؤُه. لكنه لن يكون عبقرياً.
بلى: الحاكم العبقريّ لا يضمن ديمومته في التاريخ وبقاءه في ذاكرة الزمان إلاّ إذا رعى على عهده النهضة الثقافية.
فيا أيها الحكام العرب:
عبثاً تُمضون ولاياتكم بالاشتغال في السياسة وتشكيل الحكومات ورعاية الانتخابات وإنشاء المشاريع وإصدار القرارات والمراسيم، فسوف ينسى الجيل التالي بعدكم جميع تلك “الانجازات”، لكنه لن ينسى ولا الأجيالُ التي تلي ستنسى ما أنْجزه حاكمٌ في عهده من نَهضة ثقافية تبقى على الأيام ولا تَمحوها روزنامات السنوات.
فيا أيّها الحكّام العرب وفي كل دولة من العالم:
إخلعوا من أقدامكم أحذية السياسة، واعتمروا تاج الثقافة.
إن خلودكم يكمن في التاج لا في القدمَين.