26 آب 2008 العدد 12660 السنة 37
ظلّ صديقي المؤلّف الموسيقي وليد غلمية طويلاً يُردّد لي أهمية الفرق بين الإمتاع في الغناء و”الخطابة” في الغناء، مستشهداً بأصواتٍ (شرقية وغربية) تُطرب فعلاً وتُمتع فعلاً، وهي مثالٌ حيٌّ لأهمية الصوت البشريّ كأرقى وأجمل آلة موسيقية تصويتية لا تبلُغ جمالَها ولا غِناها ولا فُروقاتها الصوتية ولا دقَّةَ أوتارها أيَّةُ آلة صناعية أو طبيعية.
وكنتُ أتلقّى رأيه تباعاً وأفهمه تدريجاً مع معاينتي الأصوات الغنائية، الى أن شاركتُ الأُسبوع الماضي في “مؤتمر الكورالات العربية” (دعتْني إليه مؤسسة “أصواتُنا” في عمّان).
خلال هذا المؤتمر (لأربعة أيام مُكَثَّفَة: 19 الى 22 أغسطس في موقع پـترا التاريخي) تسنّى لي لا أن أستمع الى الجوقات الكورالية تغنّي بل أن أحضر تَمارين أدائية (لأعضاء جوقة واحدة أو لأعضاء جوقات مُجتمعة اندمَجوا معاً)، وتَمارين صوتيّة – فوكاليز (لقائد كورال مع جوقته أو مع جوقة سواه أو الجوقات مُجتمعة وكانت خمساً: من الأردن ولبنان وفلسطين وسوريا والعراق، الى جوقة سويدية- السويد داعمة المؤتمر)، وتَمارين جسدية تَخدُم الصوت أو إصدار الصوت أو إغناء التنَفُّس الذي يساعد الصوت). وفي هذه التمارين جميعها (أنا المستمع الحيادي غير المشارك فيها) تسنّى لي أن أكتشف أمرين مدهشين:
1) عظمة الصوت البشري وطاقات أدائه اللامَحدودة (ما لا يتوفّر في أيّة آلة صناعية ذات حد أقصى وطاقة قصوى).
2) جمال الغناء الكورالي (الجماعي) في أداء ذاك الصوت البشري باستقلالية تامة، وذاتية تامة، ووحدة تامة، وكيان أدائي فنّي كامل، بمعزل عن أي سولو منفرد غنائي يتنطّح له السواد الأعظم من المغنّين والمغنّيات في العالم العربي.
وعلى ذكر السولو والكورال، يَخلط الكثيرون، في المفهوم العربي، بين الكورال (جوقة أدائية جماعية مستقلّة) والكورس الغنائي الذي هو مُجرد ترديد أفقي (“خطابي”) مسطّح للَوازم الأغنية، بتكرارها ببَّغاوياً وراء المغنّي أو المغنّية، بدون أية وظيفة له أو وظيفية مستقلّة أو إبداعية خاصة.
وبذلك تنتفي “لياقة” الصوت البشري الجماعي لمصلحة الصوت المغني المنفرد الذي لا يعدو كونه خطابياً يؤدي، بجمال نسبي أو ببشاعة تنشيزية، كلمات النص أو ميلوديا اللحن، من دون أية إضافة إبداعية من الصوت نفسه الذي، خارج كلام النص وميلوديا اللحن، لا قيمة إبداعية له، ولا فنية ولا جمالية (عكس الصوت الكورالي الجماعي أو الأوبرالي الفردي). وهكذا (وفق عنوان هذا المقال) يظهر أنّ الغناء العربي خطابة فارغة (لا غائِيَّة ذاتيةً لَها) وقارعة (تقرع الأُذُن بتطريب مصطنع أو مزيَّف لا قيمة له خارج النص واللحن).
من هنا تتّضح لي كلمة وليد غلمية بأن الغناء العربي “أداء خطابيّ” (رغم جمال أصوات كثيرة تؤديه). وازداد فهمي وُضوحاً بعد الذي عاينتُهُ في مؤتمر الأسبوع الماضي، وبعدما، منذ فترة، أخذتُ أتَمَرَّسُ أكثر في الإصغاء الى الغناء الأُوبرالي الذي يقوم على الصوت وحده أولاً، ثم على ما يؤدي من كتابة نصية وميلودية.
وتَحت هذا المجهر السياديّ تسقط أغلبية واسعة من الأصوات العربية التي غناؤُها (أياً يكن جمال النصوص والألحان، وأياً يكن جمال الصوت) ليس سوى خطابيّة (فارغة وقارعة) وفق المفهوم الذي مرّ أعلاه.