19 آب 2008 العدد 12653 السنة 37
لا لأرثيه، مَحمود درويش. الشاعرُ الشاعر لا يُرثى. موته بُعْدٌ جديدٌ لشعره. والشاعر الشاعر يعرف أن يهيّئ موته كي يكون غيابه أسطع حضوراً حين تُكمل القصيدة صوب المدى الذي يقصّر عنه الجسد. ولنا في جبران خليل جبران مثالٌ على أنه وُلد ذات يوم وما زال يولد كل يوم، وتوفي (جسداً) ذات يوم، لكنه (شاعراً) لم يَمُت، وها هو يولد كل يوم هنا، هناك، هنالك، في لغة جديدة وترجمة جديدة وبلاد جديدة.
الشاعرُ الشاعر لا يُرثى. الناس العاديون يصحُّ فيهم الرثاء. المبدعون يكون موتُهم الجسدي مَعْبراً الى اللامَوت. والذي تنطفي قصيدته مع إغماضة عينيه الأخيرة، لا يكون من الشعراء ولا قصيدته من الشعر.
الذي ناء في قلب مَحمود درويش ليس الشعر. على العكس: كان الشعر تَحدّي مَحمود في وجه الموت. كان الموت يقترب منه غير مرة فيطرده مَحمود بالشعر. تطرده القصيدة الجديدة التي تولد أو ولدَت قبل فترة أو لم تولد بعد. حين ناء قلب مَحمود (لا عقله) عن الاحتمال، هوى الجسد الذي يحمل القلب والعقل معاً، لتُكمل القصيدةُ حاملةُ القلب والعقل بلا عمر.
وأكثر: مَحمود ليس شاعراً ذا طراز (من هنا احترامُه الشعرَ والنثر فنّين مستقلّين)، ولا شاعراً ابن موجة (من هنا وفاؤُه للتفعيلة والنيو-كلاسيكية). إنه ابن قضية. القضية كانت حياته كلَّها. نذر على بوابتها أن يَتَرَهْبَنَ لَها ويتنَسَّك وينصرف، فكانت قصيدته درع القضية وصوتَها الصاهل وسيفها الذي يلوي لكنه لا ينكسر ولا ينبو. قصائد مَحمود بعيدة المدى، لأنها لا تصيب عدواً فرداً فقط في إسرائيل، ولا جماعة، ولا بيتاً، ولا حياً (على غرار الأسلحة الإسرائيلية التدميرية). قصيدة مَحمود تخترق وجدان شعب. ويا تعس شعب لا تخترق وجدانَه قصيدةٌ، ولا تَفعلُ قصيدةٌ من شاعره فعْلَ قصيدة مَحمود في قاعدة العدو. الصاروخ ينطلق من قاعدة ليصل الى قعود. القصيدة تنطلق من وجدان شاعرها لتبلغ وجدان الشعب أو الوطن أو الأمة. قصيدة مَحمود “عابرون في كلام عابر” ناقشها الكنيست الإسرائيلي كسلاح شرس في وجه العدُوّ. أرعبتْهم القصيدة، لا لأنها تَحريضية (شعر مَحمود يُحرّر ولا يُحرّض، وهنا شاعريته) بل لأنها تُحرّك شعبه وتصوّب على أعدائه. والجيل الفلسطيني الذي نشأ على قصائد مَحمود درويش (ورفاقه شعراء المقاومة) لمقاومته ونضاله بُعْدٌ آخر لا يوجدُه السلاح. يوجدُه الشعر.
منذ نصف قرن ويزيد، وفلسطين (بأبنائها المشرّدين في أرضها المحتلة وفي الشتات، وبأبناء الدول العربية التي منذ أكثر من نصف قرن تدّعي أنّ فلسطين قضيتها الأُولى) تعيش على قصائد الأخوين رحباني الفلسطينية بألحانها وصوت فيروز. لا سلاح فلسطينياً يدوم نصف قرن، بينما أعمال الأخوين رحباني (الفلسطينية تَحديداً هنا) ما زالت نضرةً تطلق الكلمة لحناً وصوتاً الى الوجدان الشعبي فيكبر الأولاد (الفلسطينيون والآخرون) على هدير المقطوعة الرحبانية الصاهلة ضدّ “آثار القدم الهمجية”.
هكذا مَحمود درويش: حمل قضيّته على أهداب قلمه، ورسم بحبره ودمه خارطة القصيدة. والقصيدةُ فلسطين. وحبيبتُه التي “تنهض من نومها” هي فلسطين. وريتا التي بينها وبين عيونه بندقية، هي من أجل فلسطين. وأمُّه، حتى أمُّه التي خجل من دمعها إذا مات، هي أيضاً فلسطين الكبرى حاضنةُ أمه الصغرى: والدته.
هذا شاعر عاش للقضية واستُشهد (نعم: استُشهد شعرياً) للقضية. والذي مات هو جسد مَحمود المنذور للموت ذات يوم. أما القصيدة فباقية لا الى موات، وأما القضية فعائشة على نسغ القصيدة. لذلك لا أرثي مَحمود. العاديون يصحُّ فيهم الرثاء. المبدعون يكون موتهم الجسدي مَعْبراً الى اللامَوت. وهكذا مَحمود.