12 آب 2008 العدد 12646 السنة 37
كم كان مشهداً نبيلاً أن نرى في صحف الخميس الماضي صورةً وزّعتها وكالة رويترز للرئيس الروسي ديمتري ميدڤيديڤ جاثياً أمام ضريح الكاتب ألكسندر سولجينيتسِن، واضعاً أمامه باقةَ ورد أحمر، على مرأى آلاف الروس الذين توافدوا، في المأتم “الرسمي”، الى وداع الكاتب الكبير (توفي ليل الأحد/الاثنين الماضي) ومعه انطفأ تاريخ طويل من عذاب سببه له نظام بلاده السابق.
كما كان لافتاً أن يؤول جثمان سولجينيتسِن الى مدافن عظماء روسيا، بعدما، في النظام الشيوعي السابق، كان الكاتبَ “المنشَقَّ”، و”المنفيَّ” و”المغضوبَ عليه” و”المنْزوعة عنه جنسيته” بسبب كتابات له ناهضت النظامَ وأركانَه، وكشفَ فيها واقعَ معسكرات الاعتقال (الـ”غولاغ”) في ظل النظام السوڤياتي السابق، ووجّه انتقادات قاسية الى الاتحاد السوڤياتي، داعياً للعودة الى القيم الأخلاقية التقليدية. ولم تساعدْه جائزة نوبل التي نالها عام 1970 في التخفيف من بطش النظام السابق في الليبراليين الأحرار، فكان عقابه الطرد من بلاده (1974) ليعيش في ألمانيا فسويسرا فالولايات المتحدة منفيّاً مقهوراً، ويعود الى بلاده عام 1994 بعد انهيار الاتحاد السوڤياتي وسقوط الشيوعية.
وعام 2007، حين دعا الرئيس الروسي آنذاك ڤلاديمير پوتين مجموعة كبيرة من المبدعين الروس الى قصر الكرملين لتكريمهم، لم يستطع سولجينيتسِن أن يحضر (بسبب وضعه الصحي المتداعي)، فبادر پوتين، فور انتهاء الاحتفال في الكرملين، الى زيارة سولجينيتسِن في بيته والانْحناء على سريره وتقديم مدالية التكريم له بكل تواضع واحترام وتقدير وإعجاب.
وها هو الرئيس الروسي الآخَر ميدڤيديڤ يَجثو الأسبوع الماضي عند ضريح هذا الكبير الذي ثَبُتَ أنه هو الباقي، وأنّ كل نظام سياسي يبقى مؤقتاً مهما طال، ويبقى كرتونياً مهما علا وَتَجَبَّر وظَلَمَ وتَوَسَّع.
وفي السياق نفسه، كان الاتحاد السوڤياتي، ذات فترة، مارس بطشه كذلك على مبدع روسي آخر هو مستسلاڤ روستروبوڤيتش، المؤلف الموسيقي وعازف التشيلّو وقائد الأوركسترا الشهير، حين نفاه النظام الشيوعي سنة 1974 ونزع عنه الجنسية عام 1978، ولم يعُد الى بلاده إلاّ عام 1990. وبعدما كرّمه الرئيس الروسي پوتين في الكرملين مع رفاقه مجموعة المبدعين (كما مرّ أعلاه) وتوفي بعدها بشهر واحد (27/4/2007)، تقدّم الرئيس پوتين لوداعه، فانحنى على الجثمان في النعش، وبادر الى تقبيل يده اليمنى لأنه “كان بها يقود الأوركسترا ويرفع لبلاده مَجداً روسيّاً في العالم”.
من هذين النموذجَين الروسيَّين في تعامل النظام والسلطة والحكم مع المبدعين، نَجزم أن المبدع هو الضوء الباقي في بلاده على حياته وبعد غيابه، ولن تستطيع غباوة حاكم أو كيدية وزير أو إجراءات نظام أن توهن هذا الضوء أو تطفئه. فقدَر المبدع أن يظلّ الحيّ الباقي على الأيام، وقدَر الحاكم أن يؤول الى النسيان ولو بعد طول ذكْر، ولا ينجو من النسيان إلاّ حاكمٌ يبني في عهده عمارات إبداعية يظل اسمه مقترناً بها على الأيام، كاقتران الملك لويس الرابع عشر بالنهضة الأدبية والفنية التي حقّقها في قصر ڤرساي، واقتران الخديوي اسماعيل في مصر بأوپرا “عايدة” لكونه هو كلّف ڤيردي بوضعها للاحتفال بتدشين قناة السويس، واليوم مات ڤيردي ومات اسماعيل ولا يعرف معظم الناس متى تم شق قناة السويس، لكن التاريخ يقرن أوپرا “عايدة” بالخديوي اسماعيل.
أن يجثو حاكمٌ عند ضريح مبدع، يعني أن يرتفع هذا الحاكم الى عبقرية المبدع، وبذا يضمن خلوده مع المبدع.
وسيمضي ميدڤيديڤ ذات يوم، ويخرج من الحكم وفي سجلاّته آلاف الصوَر عن عهده، لكن صورته جاثياً أمام ضريح سولجينتيتسن، ستبقى الصورة الأكثر خلوداً من تاريخه في ذاكرة التاريخ.