15 أيار 2007 العدد 12195 السنة 36
قلبي عليهم: يَحزمون حقائبهم ويرحلون، بسرعة الخروج من اليأس والنار يرحلون، لا خلفهم يلتفتون، ولا إلى دموع أمهاتهم المودِّعات يلهفون، باحثين عن أفق آخر، عن مدى آخر ليس يلوّثه – بتشرذمهم – سياسيون.
وقلبي معهم: يغادرون إلى أوطان أُخرى، دُوَلُها أكثرُ أمناً وأماناً، شعوبُها منصرفة إلى أعمالها (لا إلى الاستزلام اصطفافات عمياء أغنامية قطعانية وراء سياسيين إقطاعيين)، وحكَّامُها رجال دولة يعملون لمستقبل الدولة والبلاد والأجيال المقبلة (لا لمصالحهم ومحاسيبهم والانتخابات المقبلة).
وقلمي لهم: حيثما يستوطنون سرعان ما يشعُّون بنضارتهم وذكائهم وإبداعهم، وبفضيلتين رئيستين: الولاء لوطنهم الأصلِ لبنان، والوفاء للوطن الذي جاؤوا إليه.
الولاء للبنان؟ صحيح؟ وهل باقٍ عندهم ولاء لوطن غادروه مقهورين لأنهم لم يعودوا يجدون فيه أفقاً لهم مفتوحاً، فغادروه وقلوبهم منفطرة مَحقاً من الأوضاع فيه، وعقولُهم منشطرةٌ سحقاً لِمسبّبِي هذه الأوضاع؟
نعم: الولاء للبنان. لأن لبنان الذي هجروه ليس لبنان الوطن والأهل والأتراب والمطارح والذكريات، بل هو لبنان الدولة التي لم تحتضنهم، ولا هي مهتمة بفرص عملهم ومستقبلهم، بل مشغولة بمشاحنات سياسييها وتناهُشهم مقاعد الحكم والدولة ومهاتراتهم وتصاريحهم وكيدياتهم وتشاتُمهم المتنقّل من متراس إعلامي إلى آخر.
لهذا، أنّى هجر شبابُنا وهاجروا وتَهجَّروا، يبقى ولاؤهم للبنان الوطن ولو انهم كفروا بلبنان السياسيين الذين بسببهم غادروا لبنان. ولذا، حين يشعرون بأن هذا الطقم السياسي المتشاتم الحاقد الشخصي الشخصاني الهولاكي العنتري الدونكيشوتي انزاح عن صدر الوطن، سيعودون سِراعاً ويُسهمون ببنائه كما أسهموا ويسهمون اليوم ببناء الدول التي هم فيها.
ولم تعد كافيةً للتعبير عنهم عبارةُ جبران خليل جبران الساطعة “أبناء لبناني هم الذين يولدون في الأكواخ ويموتون في قصور العلم” (من مقاله الشهير “لكم لبنانكم ولي لبناني”) بل تَخَطَّوها بكثير ليكونوا وُلدوا في لبنان وغادروه كي يشعّوا أدمغةً لبنانية (وذات حقبة لاحقة: من أصل لبناني) تُباهي بها الدول التي احتضنتْنهم، فحضنوا أدمغتهم فيها، وأسهموا بتطوُّرها وإنمائها في مختلف الحقول (وللكويت بينها نصيب من لبنانيين يقدِّمون لها، منذ عقود، عقولهم وخبراتهم وأقلامهم وأيديهم، فتفيد منها الكويت ويرفعون هم للكويت ضمير الوفاء).
ومن زمان لم يعد جديداً أن نسمع (أو نقرأ) عن بروز دماغ لبناني هنا أو هناك أو هنالك في العالم تتناقل إنجازاته العلمية أو الفكرية أو الفنية الإبداعية وسائلُ الإعلام العالمية، ونرنو نحن إليه مفتخرين بأنه قبس من لبنان.
وكم من بلدٍ في العالم برز فيه حكامٌ من أصل لبناني، وأطباءُ وعلماءُ ومُخترعون وخبراءُ ورجالُ أعمال لبنانيون أو من أصل لبناني، وهؤلاء – في معظمهم – حين ينْزاح عنا معظم هذا الطقم السياسي الفاسد، وتتركّب في لبنان دولة كما تكون الدول (لا المزارع ولا القبائل ولا العشائر ولا كانتونات أسياد المحاسيب وأزلام الداخل والخارج) سيعودون إلى لبنان في ورشة بناء تنهض به الأدمغة اللبنانية التي، بِهجرتها خارج لبنان، يصيب أعداؤه مقتله الأوجع.