هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

69- لبنان… وأعجوبة القيامة في اليوم الثالث

5 آب 2008 العدد 12639 السنة 37

“هُنا، تَحت كلّ ترابَه حكايةُ مَجْدْ
هُـنا اللهُ شَرَّعَ بابَه وضَمَّكِ ضَمَّةَ وَجْدْ”

يوم قالَها شاعرُ لبنان سعيد عقل (في افتتاح كتابه الخالد “لبنان إن حكى”)، كأنه كان يقصُد كلّ حبَّة في كل مكان وكل زمان. كأنه قالَها عن أمس واليوم وكل يوم.
والحاصل اليوم في صيف لبنان 2008، ضوءٌ من قولة سعيد عقل. فلبنان اليوم، في هذا الصيف المعجوق بالأهل والمغتربين الآتين والسياح والزوار والإخوة العرب المصطافين والملاّكين، مزهرية مهرجانات واحتفالات، منها الدوليُّ الكبير المكرَّس، ومنها الوطنيُّ الجامع، ومنها المحلّيُّ الراقي. فالعابر في قرى لبنان وبلداته ودساكره ومصايفه وسواحله وشطوطه، لا يتوقّف عن قراءة: هنا لافتة، هنا يافطة، هنا إعلان، عن مهرجان أو حفلة أو احتفال أو سهرة أو مناسبة، حتى لتُمسي ليالي لبنان زوغة فرح على امتداد ليل تطرّزه أنوار البلدات اللبنانية شعاعات لون.
وهذه هي العلامة. وهذه هي الإشارة. في البلدان، عادةً، مهرجانٌ مركزيّ في واحة (العاصمة غالباً) أو رُبّما اثنان في فترات متقطعة من السنة. لكن الحاصل في لبنان – هذا الضئيل الجغرافيا والديموغرافيا إنّما الغنيُّ الإنسانوغرافيا – شُموسٌ مشعّة في ليالي الصيف: أنغامٌ وأصوات، مسارحُ ومدارج، منابر وغِوى كلمات، وفي كل بقعة من الخارطة اللبنانية تشُعُّ سهرةٌ لَها تصفيق الناس وفرحُهم وألق عمر لبناني له النّجومُ سقفٌ، ومدى الليل حدود.
هذا هو الفرحُ اللبناني، النبضُ اللبناني، نبضُ الحياة التي تستمرّ، تتواصل، يتصل أمسُها بغدها في تَحدّي كل خطر.
في السائد أن يُعزى الى لبنان رمزُ طائر الفينيق الذي “يَموت ثم يقوم من رماده في اليوم الثالث”. وهكذا لبنان: منذ أسطورته الفينيقية هذه، يَحترق كلّ فترة: بالحرب يَحترق، بالأزمات يَحترق، بالخلافات السياسية يَحترق، بالضغوط الشعبية يَحترق، لكنه يَحترق من دون أن يَموت، أبداً لا يَموت، لأنه ينهض من رماده في اليوم الثالث، وتكون له قيامةٌ الى الحياة الجديدة.
كأن قدَره أن يكون الطير الذي يَحترق لينهض من رماده، والوطن الذي يَحترق لينهض من دماره.
ولأنه يؤمن بالانبعاث كلّ دورة من دورات الحياة، لا خوف عليه من أيّ حرب، من أيّ أزمة، من أيّ خلافات، من أيّ صدمة أو مأساة أو حتى فاجعة، لأنه، حين يظنونه هوى، يكون هوى صعُوداً الى قيامة جديدة.
وإكليل الشوك الذي يضفرونه لرأسه الدامي، يتحوّل إكليل غار يضفره له شهداؤُه والأبطال والمبدعون الخلاّقون العباقرة على أرضه ووسع عالم الانتشار في كل الدنيا.
وإسفنجة الخلّ التي يسقونه إياها ليُمَرمروه، تتحوّل ينابيع عسل وجمال تتقطّر من حناياه جميعاً.
والخنجر الذي به يطعنه فريسيو الخارج ويوضاسيو الداخل، يتحوّل سيفاً يُجرّده لبنان للحقّ والحقيقة والإحقاق، الثالوث الذي هو عنوانٌ آخر للبنان.
ولأنه كذلك، هذا اللبنان الأُعجوبيّ، تشتهيه النوايا السوداء كي تشوّه وجهه الناصع، لكنه يقاومها بنصاعة تاريخه ووداعة حاضره ورصاعة غده. وبهذا سيبقى، ولهذا نؤمن به، وعلى هذا نُقسم أن تكون أقلامنا خادمة هيكله الوفيّة، حتى انقضاء الدهر.