29 تموز 2008 العدد 12632 السنة 37
عَرقَلوا وصولَ رئيس الجمهورية ستة أشهر. عَرقَلوا تشكيل الحكومة ستة أسابيع. وصلنا الى البيان الوزاري، عرقلوه.
مطالب ومطالب مضادّة. شروط وشروط معاكسة.
نَفهم أنّ هذه التعدُّدية هي أساس الديمقراطية. وهي الخلاص من الديكتاتورية والأوتوقراطية والتوتاليتاريا. لكنّ الحاصل عندنا اليوم في لبنان عرقلاتٌ تَصَلُّبيّة كيديّة أين منها الديكتاتورية والأوتوقراطية والتوتاليتاريا!
يتحدّثون عن تدَخُّلاتٍ خارجية ويشيرون الى المتدخّلين ويصرّحون باتّهاماتٍ سافرة، ولا من يتحرّك من ذوي القرار.
كأنّ قَدَر هذا الوطن أن يَعْبُرَ من أزمةٍ ليسقطَ في أُخرى، ومن حربٍ كبرى الى حروبٍ صغيرة، ومن تَأَزُّمٍ سياسيّ الى تَأَزُّمٍ أمنيّ. كأنه ليس مكتوباً له أن يرتاح، هذا الوطن المعذَّب. كأنّه مكتوبٌ عليه أن يظلَّ مصلوباً على ضمير الدول الكبرى، وعلى مؤامرات أزلامها في الداخل اللبناني، هؤلاء غير العابئين بِمصير شعبهم بل عابئون بأن يوصِلوا شعبَهم الى قعر الإحباط الذي يَجعل الشعب يَـيأس فيرضى بأيّ حَلّ، بأيّة واسطة ليَخرج من مِحنته. إنّ أوجع المأساة أن تنجح الأزمة في ترويض الشعب على وضع يائس، وأوجعُ الأوجع لا أن تقع الفاجعة بل أن يعتادها الشعب فيتعايش معها.
وإذا أهل الداخل لا يشعرون بِهول ما يَجري، فالذين في الخارج شاعرون كثيراً وموجوعون كثيراً وقلقون كثيراً وخائفون كثيراً على لبنان أن تتغيَّر فيه الصيغة، أو ينقلب به الكيان، فيُمسي لبنان حبّة عادية من حبوب المسبحة في المنطقة، ويفقد خُصوصيته الكيانية وميزته المغايرة وطابعه الفريد، ويفقد الإنسان اللبناني في الداخل كلّ فرادته.
صحيح أنّ إحدى ميزات لبنان الرئيسة: طبيعته المتنوعة. ولكنّ الطبيعة المفرغة من الإنسان تبقى لوحةً جامدةً في إطار. وما نفع جمال الطبيعة بدون إنسانٍ يسكنُها ويزيدها عطاءً وبَهاءً؟
العقل اللبناني خلاّقٌ ومبدع، وبات لبنان مَنْجَماً لتصدير العقل المبدع الخلاّق الى العالم القريب والوسيط والبعيد، وما زال لبنان يغنم من عقل أبنائه المبدعين حين يُهاجرون نازحين عن أرضه، لكنه تُقْفِرُ أرضُه وبيوتُه ومؤسّساتُه، حتى فلا يبقى فيه سوى العُجَّز ومواطني العمر الثالث والذين باقون فيه كي يستأثروا به ويَحكموه بعد تَحويل فرادته الى حبة عادية في مسبحة عادية.
لكنني، رغم كلّ ما يَجتاحني من وجع وقلق وغضب، لا (ولن) أقع في اليأس ولا في ما يسمّونه “الإحباط”، بل سيبقى صوتي صارخاً نداءَه، وقلمي شاهراً كلامَه، في وجه كلّ من يُحاول أو يسعى الى تغيير صورة لبنان أو كيان لبنان أو فرادة لبنان أو عبقرية لبنان.
فلْيؤخِّروا ما حلا لَهم التأخير والتأجيل. ومهما كانت مطلوبةً منهم العرقلة، قد يؤخّرون صياح الديك، لكنهم لن يؤخِّروا طلوع الفجر. والفجر سيطلع. بِهم وبدونِهم سيطلع. برضاهم أو غصباً عنهم سيطلع. رغم إرادتهم وإرادات أسيادهم سيطلع.
إنّ الوطنّ الذي، منذ نَحو قرن كامل وهو يقَدِّم شهداء ارتضوا موتَهم حياةً لوطنهم، لن يركع أمام جلاّد يريد إركاعه.
وسوف يبقى لبنان هو الوطن المغاير بين الأوطان المتشابِهة كأسنان المشط وحبوب المسبحة.
والذين أخَّروا ستة أشهر، ثُمّ ستة أسابيع، ثُمّ صدور البيان الوزاريّ، قد ينجحون في تأخير آخر أو عرقلة أُخرى، لكنهم، مهما برَّروا ذلك ونَجحوا، سيسقطون في لعنة التاريخ وحقد الأجيال اللاحقة.
ولن نرحمهم. ولن يرحمهم أحفادنا.