8 تموز 2008 العدد 12611 السنة 37
كان لافتاً، قبل أيام، ما جاء في خطبة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أمام رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان في القصر الجمهوري بأن “لبنان قضية كونية”، رافعاً إياه من عنعناته السياسية المحلية الضيقة، وعن دوره في محيطه العربي، وعن رسالته الى العالم، ناعتاً إياه (وأيةُ فرادةٍ لوطنٍ أن يقال عنه!) بأنه “قضية كونية”.
ولم يعد جديداً تكرارُنا الدائم عبارةَ البابا الراحل يوحنا بولس الثاني بأن “لبنان أكبر من بلد. إنه رسالة”.
وكان واضحاً، في الآونة الأخيرة، هرعُ الحكّام العرب (مُجتمعين في الدوحة) الى إنقاذ لبنان مِما كان يتخبَّط فيه (أو مِما جعله سياسيوه – لا شعبُه – يتخبَّط فيه)، وفي بال المجتمعين “الدَّوحَويّين” جميعاً: إنقاذ الصيغة التي يتفرَّد بِها لبنان.
فهل تلك “القضية الكونية” و”الرسالة” و”الصيغة” هي فقط لأنّ لبنان وطن المسلمين والمسيحيين معاً (ما لا يتفرّد به بلد عربي آخر)، أو لأنه يضم العائلات الروحية العائشة فيه؟ (لا “المتعايشة”، فهذه الكلمة كريهة وذات مدلول مؤقت).
قد يكون هذا الوجه من لبنان دافعاً الى هذه الأقوال جميعاً. إنما… هذا الحضور اللبناني الساطع، لا نَختصِرَنَّه في ناحية دينية فقط، ولا في عائلات روحية مُجتمعة فيه فقط. هذا الحضور اللافت الساطع المتفرّد الفريد المتميّز المغاير، فلنوسّعه أكثر، ولْنَقُل إنه حضور العقل اللبناني الخلاَّق المبدع الذي في كل زمنٍ ضاقت به ضآلة الجغرافيا اللبنانية فانتشر في العالم “يُلَبْنِنُ” حضوره حيثما حَلّ.
فَرادَتُه، هذا اللبنانُ الضئيل الجغرافيا والديموغرافيا، أنه (بفضل العقل اللبناني المبدع) استعاض عن كثرة الجغرافيا بِجودة العطاء، وعن كمية الديموغرافيا بنوعية الإبداع، فإذا تَحت كل سماءٍ، وعلى كل أرضٍ، وفي كل بلدٍ من العالم، لبنانيون بارعون في حقل عملهم، مبدعون في ميدان إنتاجهم، لامعون في اختصاصاتِهم من كل نوع.
وهذه البيروت التي يتطلّع إليها العرب على أنها باريسُهم ونيويوركُهم ولندُنُهم، ليست كذلك لِما فيها من فسحات حرية وجمال، بل لأنها بنت عراقة أثبتت حضورها عبر التاريخ. لذا حين انوجعت بيروت انوجع العرب، وكلما تَخرج من أتون النار يهرع إليها العرب كأنها الملاذ، كأنها الواحة، كأنها الأفق، مع أن في بلدان الكثيرين منهم ما لا توفّره بيروت من رفاه وخدمات.
وهذا اللبنان الذي يتطلّع إليه العرب على أنه مرناهم صيفاً وشتاءً وفي كل فصل، ليس كذلك لِما فيه من بَحر وجبال ومناخ وجمالات لا تُحصى، بل لأنه بلد الإنسان اللبناني الذي فَوْلَذَتْهُ المآسي فنشبَ من كل واحدة بينها أقوى، وأكثر عناداً على الريادة في كل حقل. من هنا أن لبنان، حين هو معافى، حاجة وضرورة لشعبه وشعوب الآخرين.
ليست مصادفة أن يكون هذا اللبنان، الضئيل الجغرافيا والديموغرافيا، مصدر الأبجدية (جبيل) والأرجوان (صور)، وموطن الأُعجوبة الأُولى للسيّد المسيح (قانا)، والمطبعة الأولى في الشرق (1610 في دير مار أنطونيوس قزحيا – وادي قاديشا – تحت ظلال الأرز)، وسواها وسواها في القديم والوسيط من التاريخ، وموطن إبداعات في التاريخ الحديث كثيرة تَطول لائحتها، تطُول.
إذاً: لا المناخ وحده في لبنان وحده هو الجاذب، ولا وحده العيش الروحي الواحد (أقول “العيش الواحد”، ولا أقول “التعايش” و”العيش المشترك”) بين الطوائف والأديان معاً، ولا وحدها مُجاورةُ الكنيسة والمسجد، ولا وحده جمال الطبيعة وغنى المغاني السياحية. هذه كلّها؟ صحيح. إنما الأساس الأهم يبقى: العقل اللبناني المبدع الخلاّق، هذا الذي تستطيع قوى الشر أن تَهدم له بيتَه ومدينتَه، لكنها لن تستطيع إطفاء نوره الذي ظَلّ، وسوف يظلُّ، يُشرق من أيِّ فجر في الأرض، فيكون هو، هو الفجر.