هنري زغيب
معظم المؤَرِّخين ركَّزوا في دراساتهم على تأْريخ سيَر الملوك والرؤَساء والأُمراء. وقليلون منهم اشتغلوا على حكْم النساء في التاريخ. من هنا متابعتي قبل أَيامٍ حوارًا على شاشة “ناشيونال جيوغرافيك” مع خبيرة الآثار المصرية كارا كُوني حول كتابها قبل الأَخير “أَيامَ النساء حكَمْنَ العالَـم – سيرة ست ملكات من مصر القديمة”.
هنا لمحات من الحوار، وأَبحاثٌ أُخرى قمتُ بها عن تلك الملكات الفرعونيات.
من هي؟
اسمها الأَصلي كاثلين كُوني. تُوقِّع مؤَلفاتها باسم “كارا كُوني” (Kara Cooney). ولدَت في هيوستن، تخرجت بالبكالوريوس من جامعة تكساس سنة 1994، وبالدكتوراه سنة 2002 من جامعة جون هوبكنز (ولاية ميريلند الأميركية) في تاريخ الآثار المصرية القديمة. سنة 2005 قامت لدى متحف الفنون في لوس إِنجلس بأَبحاث معمَّقة عن توت عنخ أَمون وزمن الفراعنة الذهبي وعن السلالة الفرعونية العشرين.. حاليًّا تدرِّس الفن المصري القديم فيما هي رئيسة دائرة لغات وثقافات الشرق الأدنى لدى جامعة كاليفورنيا في لوس إنجلس. قدَّمَت سنة 2009 سلسلة حلقات تلفزيونية عن مصر القديمة في محطة “ديسكوفيري” الأَميركية.
الحكم الأُنثوي رهينة
أَهمية كتابها إِضاءته على ست سيدات فرعونيات، من حادْشِبْسُوت إِلى كليوباترا، تولَّين الحُكم بحزمٍ يغيِّر إِيجابيًّا نظرة العالم اليوم إِلى قدرة النساء على الحُكم. وإذا كانت ظاهرة حكم النساء نادرة في العصر الحديث، فهي لم تكن كذلك قبل آلاف السنوات في مصر القديمة، زمنَ تولَّت الحكم ست ملكات بنظام توتاليتاري حازم أَقوى من حزم حكَّام رجال.
غالبًا ما الوضعُ في بعض البلدان يجعل حكْم المرأَة رهينةً في مجتمع ذُكوري. غير أَن الوضع في مصر القديمة كان مختلفًا حين أَمَّن وصولَ المرأَة إِلى أَعلى هرَم سياسي في السلطة، وتَخَطِّيها العوائق، وإِدارتها ولايات آمنة يصلح نموذجها أَن يحتذيه مثالًا كلُّ حُكْمٍ في العصر الحديث.
هذا ما كانت فصَّلته الخبيرةُ كانا كُوني في كتابها الأَول “المرأَة التي وَدَّت أَن تكون ملِكًا” (2014) عن وصول الملكة حادْشِبْسُوت إِلى حكم مصر القديمة، ثم فصلته أَكثر في كتابها التالي “أَيام النساء حكَمْنَ العالَـم – سيرة ست ملكات من مصر القديمة” وهو غيَّر لدى صدوره (2018) نظرة الكثيرين إِلى قُدرة المرأَة على الحُكم.
أَبحاثها على 300 ناووس
اشتغلت كُوني على السلالات الفرعونيَّة التاسعة عشرة والحادية والعشرين، مركِّزة على اضطرابات عاصفة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا طبَعت تلك الفترة وأَثَّرَت حتى على الطقوس الجنائزية والمأْتمية. وهي بدأَت أَبحاثها منذ 2010 وجالت تدقِّقُ في نحو 300 ناووس من مصر القديمة، موثِّقةً نتائج اكتشافاتها لدى متاحف القاهرة ولندن وإدنبرغ وباريس وبرلين والفاتيكان، خالصة إِلى جواب رئيس عن سؤَال رئيس: لماذا المصريون القدماء أَتاحوا للنساء أَن يتولَّيْن الحُكْم أَكثر مما في أَيِّ بلاد أخرى من العالم.
في هذا السياق تؤَكِّد كُوني على العداوة التي يكنُّها الرجال لحكْم النساء، عبر دراستها العلمية حول التطوُّر الإِدراكي سيكولوجيًّا وبيولوجيًّا بين الرجال والنساء عبر حقبات التاريخ، خصوصًا لدى السلالات الفرعونية الأُولى والثانية عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة.
في النسيان
تركِّز كُوني على ما لحق تلك الملكات من نسيان وإِهمال وإِلغاء رغم نجاحهنَّ، سوى أَنهنَّ فرضْنَ حضورهُنَّ بحمايتهنَّ السلالة وتطوير ازدهارها، ما شكَّل في مصر القديمة ظاهرة فريدة في تاريخ الحكْم منذ فجر التاريخ.
صحيح أَن تلك الملكات كُنَّ يُدركْنَ أَن في أُنوثتَهُنَّ تهديدًا لهنَّ في مجتمع رجولي، إِنما لم يكُنَّ يتصرَّفْن في الحكْم كما يتصرف الحكام الرجال. وكُنَّ أَحيانًا يُضمِرْنَ قسوة من خلال اللين، وتساهُلًا من خلال الحزم، لذا كان عليهِنَّ أَن يُظهرْنَ سطوتهُنَّ وإِرادتهُنَّ في شكل مختلف عما لدى الرجال، دون أَن يساومْنَ على قناعاتهِنَّ.
وكان من تلك الحلول أَن الملكة حاتْشِبْسُوت كانت تَظهر على جمهورها مع لحية مركَّبة، وكليوباترا كانت تجهد إِلى إِظهار قوتها لدى يوليوس قيصر ومارك أَنطوني حيال سائر حاشيتها من الرجال. والحاصل أَنَّ حادْشِبْسُوت تركَت الحكم في مصر الفرعونية أَفضلَ مما كان عند تولِّيها العرش، فيما كليوباترا خسِرَت كل مجدها في معركة مأْساوية.
حرية لافتة
ما ساعد تلك الملكات في الحكْم أَنهُنَّ تمتَّعْنَ في مصر بِحُرية أَكثر مما حدث في سائر الحضارات القديمة، وغنِمْنَ حقوقًا حتى أَكثر من النساء الأَثينيات، ومن مناطق في بلدان المتوسط وسائر المشرق وبلاد ما بين النهرين.
ماذا عن تلك الملكات الست؟
هذا ما أَعرضه في الجزء الثاني من هذا المقال.
كلام الصُوَر:
- كارا كُوني وأَبحاثها عن مصر القديمة
- أَمام أَحد مكاتب الآثار في القاهرة
- غلاف كتابها عن الملكات الست
- أَمام الهرَم الأَكبر في الجيزة
4.تنزل مُدَرَّجات الهرم