27 أيار 2008 العدد 12569 السنة 37
موجعاً كان، للبنان، غلافُ مَجلة “تايْم” الأميركية (عددها أمس الاثنين 26 الجاري)، ومُفْرحاً كان لأهل الخليج.
الغلاف من نصفين عموديين فيهما صورتان، تتوسَّطُ الشِّقَّ بينهما عبارة “العالَم المقسوم في الشرق الأوسط”. في الصورة اليسرى رصاصُ أسلحةٍ خفيفة وثقيلة، وفي الصورة اليُمنى باقة أبراج حديثة في دُبَيّ، وتَحت الصورتين عبارةٌ مشتَركة: “فيما لبنان يَحترق، يتشكّل في الخليج اقتصادٌ جديد ومُجتمعٌ جديد”.
بقدْرِما نفرح للخليج وأهل الخليج بازدهاره ونُمُوِّه واطّراد اقتصاده ومُجتمعه وعمرانه بشَراً وحجَراً وشَجَراً، نشعر بالغصّة على صورةٍ يأخذها الغَرْب عنا بأننا بلدٌ لا تغيب عنه المشاكل والثورات والحروب، ويَحكُمه الاحتكام الى السلاح كل فترة، فتعود إليه الصِّراعات أشرس وأقوى وأكثر إيلاماً، وأبشع انعكاساً الى الخارج حتى ليكاد العالَم يقطع الأمل في أن يعودَ لبنان الى لبنان.
قلتُ إن هذه هي الصورة في الغَرْب عن لبنان، والشاهد: غلاف مَجلّة “تايْم”. فما اندلعت أحداث الأسبوع الأول من هذا الشهر في شوارع بيروت حتى سارع الإعلام الغربي (حِياديُّه والمأجور) الى تصوير لبنان بلداً من الخطر الذهابُ إليه والتعامُلُ معه.
غير أن هذه ليست الصورة عن لبنان لدى العَرَب الذين يعرفون، وعاينوا ويعاينون، والذين – وهذا هو الأهم – يُحِبّون لبنان، ولَهُم فيه وشائجُ وذكرياتٌ وأحلامٌ ومشاريعُ وعقاراتٌ ومصالح ومُمتلكات، وأصدقاء ومُحبّون ومعارف مُخْلِصون.
والشاهد هنا ليس واحداً بل متعدِّد، انطلاقاً (وفق الأحداث الأخيرة) من مؤتمر الدوحة والتئام لَجنة الوزراء العرب ونجاح مسعاهم في توحيد الأقطاب اللبنانيين، موالين ومعارضين، متعاونين وحردانين، شخصيين وشخصانيين، طاروا من بيروت في طائرتين وعادوا الى بيروت في طائرة واحدة.
هذا على مستوى القادة العرب السياسيين. وعلى مستوى القاعدة الشعبية العربية: ما إن صدر الإعلان عن رفع خيام الاعتصام من وسط بيروت، حتى احتقنت خطوط الاتصالات الهاتفية والإلكترونية في مكاتب السفر وشركات الطيران، لكثرة الطلب على حجوزات المواطنين العرب للمجيء الى بيروت والعودة الى لبنان وحجز الفنادق فيه والشقق واستعداد أصحاب البيوت العرب لتهيئتها كي يُمضوا الصيف أو أسابيع منه عدة، بدءاً من جلسات السوليدير الذي شعَّ حتى بات “سوليدير العرب”.
في زيارة سابقة لي الى الكويت، دعاني أصدقاء كويتيون نبلاء الى عشاء في ما سموه لي “سوليدير الكويت”، فإذا هو مكانٌ شاطئيٌّ رائع في العاصمة الكويتية، هادئُ الجو، مُمتعُ الجلسة، مزدحمٌ بالساهرين والسامرين كويتيين وضيوفاً.
وفي زيارةٍ الى الأردن مؤخراً، أشار لي صديق في عمّان الى مشروع كبير في وسط العاصمة سمّاه لي “سوليدير عمّان”، فإذا هو واحةٌ كبيرة في قلب عمّان تشير خرائطها واللافتات الى أبراج فيها وأسواق ومُجمَّعات تِجارية شبيهة بـ”سوليدير بيروت”.
نعم… هذا هو لبنان: البلد الأٌعجوبِيُّ الذي يَخاف عليه العرب (الْمُخْلِصون قادةً ومواطنين) حين هو في اشتداد أزماته وضائقته، ويهرعون إليه مُحبّين حين هو في هناءته وهدوئه، فإذا هو واحة العرب، وموئل العرب، ومرنى العرب الذين، في معظمهم، قادرون على تَمضية استراحاتِهم في أيّ بلد أوروبي أو أية مدينة أميركية، لكنهم يُشيحون ويفضلون لبنان لِما يرون فيه من أجواء وأهل وشعبٍ دمثٍ لا يرحب بِهم فيه بل يستقبلهم لديهم.
فليسمحْ لنا غلافُ مَجلة “تايم” أن نُهنئ مُجدداً إخواننا في الخليج على أبراجهم والاقتصاد، إنّما أيضاً أن نُهنئنا في لبنان على عقل لبناني ضالع في الخليج، ومنتظِرٍ أن يعود الهدوء الى وطنه كي يعود ضالعاً في نَهضة لبنان.