هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

58- … ووعدوا بأن يعودوا

20 أيار 2008 العدد 12562 السنة 37

شُكراً للأصدقاء العرب الطيّبين الذين اتَّصلوا بي الأسبوع الماضي من دُوَلِهم، مطمئنّين إليّ وإلى أصدقائنا المشتركين في لبنان، بعدما انفجر في بيروت بركان الجنون.
وشكراً للأصدقاء العرب الذين – بعد صدور مقالي السابق، الثلثاء الماضي في “القبس” (“قبس من لبنان” 57: “إِجْلاءُ الرَّعايا وجَلاءُ الرِّعايات”) – كتبوا أو اتصلوا مؤكِّدين أنّ الرعايا العرب الذين طلبَت حكوماتُهم جلاءَهم من لبنان، سوف يعودون فور عودة الْهدوء الى لبنان.
وشكراً للأصدقاء العرب الذين كانوا خارج لبنان خلال مِحنة الأسبوع الماضي، وأسْمعوني كلاماً نبيلاً عن أنَّهم آتون الى لبنان هذا الصيف، فورَ استتباب الهدوء، وأنّ ما جرى لن يَثنيهم عن مَجيء.
كلُّ هذا الحب! كلُّ هذا الإيمان! كلُّ هذا التعلُّق العربِيّ بلبنان من مُخْلصين في قمة النبل!!!
غريبٌ جَمالُه هذا اللبنان: جمالُ أرضه، جمالُ طبيعته، جمالُ مناخه، جمالُ دماثة أَهله، جمالُ العلاقة بينه وبين أشقائه العرب الذين (في معظمهم الأمين المخْلص) لا يتركونه في مِحنته كما لا يتركونه في هناءته.
همُ الذين (في معظمهم) قادرون على الفسحات الْمُريْحة في أية عاصمة أوروبية أو مدينة أميركية، لا تَحلو لِمعظمهم فسحةٌ إلاّ في لبنان، في فنادقه وشواطيه وجباله وطرقاته ومعالِمه ومغانيه وواحاته ومطاعمه وملاهيه ومقاهيه وساحاته ومهرجاناته وحفلاته ومواسِمه التي تتنوّع بين بلدة وبلدة، ومدينة ومدينة، وقرية وقرية، وساحل وجبل، حتى لكأنه الأوروبا الأقرب والأميركا الأقرب، طالَما فيه كلُّ ما فيهما، ويَختصر كلّ ما لديهما، في هذه المساحة الضئيلة التي لا تأخذ من الجغرافيا إلا شهقة عاشق، ومع ذلك تتناحر عليه جميع الجغرافيات السياسية والعسكرية والدبلوماسية، طالبةً حصتها في المكان والزمان.
ومن سؤال بسيط لشركات الطيران في بيروت، يتّضح أن الحجوزات كثيرة وكثيفة، ولوائح الانتظار طويلة، وأشهُر الصيف امتلأت أجنْداتُها بالْمواعيد، والعرب الكانوا، سيرجعون، والذين ما كانوا، سيجيئون، والذين لم يأتوا أبداً، سيأتون، وسوف يشهد لبنان هذا الصيف زوغة زوّار وسيّاح كنّا علِمْنا بِهم، ثُم خشينا أن نَخسرهم بعدما خسر لبنان في الأسبوع الماضي نبضاتٍ غاليةً من اقتصاده ومُمتلكاته وأرواح شهداء وضحايا، ونال تشويهاً إعلامياً، منه مَحلي ومنه عربي ومنه دولي، وسِمعةً مترجرجة في العالَم عن هذا البلد الصغير يستقطب اهتمام كبار الرؤساء وأعلى المنابر الدولية، لكنه الوطن الكبير الذي يبلغ صداه آخر الدنيا فتهتزّ لاهتزازه، دساً أو دعماً، مراكزُ القرار في دول القرار.
غريبٌ هذا اللبنانُ الأعجوبِيّ. وأُعجوبيّته ليست شعراً في كتاب، ولا كلماتٍ في أغنية، ولا عنترياتٍ على المنابر، بل هي واقعٌ حسّيّ ملموسٌ عجيب، هو الذي ترنو إليه العيون جميعاً، مُخْلِصَتُها والحاسدة، نبيلَتُها والْمُغْرضة، صديقتُها والْمُجرمة، ويَخرج هو، كلّ مرة، من حدَقات العيون جَميعها: نقياً بَهياً قوياً، لا يُضعفه إلا -فقط- ضعفُ إيْمانٍ به في نفوس بعض أبنائه الْمنساقين الْمنباعين اليوضاسيين الذين يرتضون أن يبيعوه بثلاثين فضية لأسيادهم طمعاً بِمنصب، بِحقيبة وزارية، بِمقعد نيابي، بزعامة شارع أو زاروب، لكنّ الخيانة دائماً ترتدّ على أصحابِها، وهؤلاء حثالةٌ ساقطة لا مكان لَها في عنوان الوطن الذي يبقى هو العنوان.
عاد لبنان الى لبنان من غربة الأسبوع الماضي؟ نعم عاد. والذين وَعَدُوا بأن يَعُودُوا، ننتظرهم على عتبات بيوتنا التي يعرفون تَماماً كم هي أيضاً تسابقنا إليهم… قبل القلوب.