هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

56- كلام شعر؟ يعني كلام بلا معنى !

6 أيار 2008 العدد 12548 السنة 37

يتباهى بعض السياسيين (أو يتندَّرون أو يَسخَرون) أمام كلامٍ لا يُعجبُهم صادرٍ من الناس (أو من أخصامهم السياسيين أو من جهة لا يؤيّدون كلامها) بالتعليق عليه: “هذا كلامُ شعر” أو “هذا زجلٌ سياسي”، للدلالة الضمنية (أو حتى الظاهرية أحياناً) على أنّ ذاك الصادر هو، في رأيِهم، “كلام بلا معنى”.
وفي تعليقهم الضمني هذا (أو حتى الظاهري أحياناً) أنّ كل كلام ليس سياسياً (بـ”مفهومهِم” هُم للكلام السياسي) أو لا يصبُّ في مصالحهم السياسية (وما أكثر مصالحهم السياسية، ولو على حساب الوطن غالباً، وعلى حساب المواطنين)، هو كلام لا فائدة منه أو لا طائل أو لا معنى له أو لا اتّخاذ به، لذا يَصِمُونه بـ”كلام شعر”، ظناً منهم (وما أسوأ ظنهم) أو إيماناً (وما أتعس إيمانهم) أو يقيناً (وما أضعف يقينهم) أو معرفةً (وما أوسع جهلهم) أنّ كلام الشعر يظل كلاماً بكلام، لا قياس عليه ولا معيار.
هؤلاء السياسيون (وما أكثرهم) لا يعتبرون كلاماً صالحاً أو ذا معنى إلاّ الذي يصدر (إيجاباً أو من وُجْهَتهم الشخصية) عنهم أو عن سياسيين مثلهم، ليعني الوضع السياسي أو الظرف السياسي أو الحالة السياسية. غير أنهم لا يدركون أن تلك الخطَب السياسية أو التصاريح السياسية زائلة مع أصحابها أو مع وضعها الراهن أو مع ظرفها الآنِيّ أو مع حالتها العابرة، ولن يبقى في الزمان غيرَ زائلٍ وغيرَ راهنٍ وغيرَ آنِيٍّ وغيرَ عابرٍ إلاّ الشعرُ وأصحابُه الشعراء (وهنا أستثني، بكل حدّة وحسم وصرامة، كلَّ كلامٍ نثري أو شعري يصدر عن شاعر في وضع سياسي أو ظرف سياسي أو حالة سياسية، لأنَّ كلامَه زائلٌ مع الوضع والظرف والحالة).
فليفهمْ هؤلاء السياسيون أنّ كلامَ الشعر (فصحاه والمنشور) وكلامَ الزجل (مَحكيَّهُ والعامِّيّ ولو غير المنشور) هو أرقى وأبقى وأنقى من معظم كلامٍ يَصدر عن سياسيٍّ في وضعٍ وظرفٍ وحالة، بل على العكس: يُخلِّد السياسيُّ إذا دخل في قصيدة شاعر (سيف الدولة والمتنبّي نَموذجاً) لأنّ الشاعرَ يغيب، والسياسيَّ يفنى، وتبقى القصيدة ذاكرةَ ذاك السياسي (سلباً أو إيجاباً) فتظلُّ الأجيال تتذكَّره في القصيدة، غير حافظةٍ مآثرَه السياسية وتصاريحَه السياسية وإنْجازاتِه السياسية في عهده.
حتى الزَّجل (وهو غالباً مرتَجَلٌ على منبرٍ بالعاميّة الْمحكية) تتناقله الذاكرة الشعبية جيلاً بعد جيل، بعبقريته الفطرية مضموناً وتراكيبَ، فيبقى على الألسن موروثاً متوارَثاً، وتوريثياً ينتقل من جيل الى جيل حاملاً معه مضمونه وسحره التأليفي.
ومن بديهي القول أن الشعر (فصيحه والمنشور) باقٍ في الكتب خالداً أمام القراء والدارسين والباحثين جيلاً بعد جيل، وتالياً هو أبقى وأخْلَدُ من أيّ خطابٍ سياسي في مناسبة، أو تصريحٍ سياسي في جريدة، أو موقفٍ سياسي في إذاعة أو تلفزيون. من هنا زواليَّةُ معظم الكلام السياسي (وأصحابه السياسيين)، وخلوديَّة معظم الشعر، فصيحه والعامي (وأصحابه الشعراء)، لأن السياسي يَخْلُدُ في قصيدة شاعر، أو بتَرْكِه عملاً إبداعياً أياً يكن هذا العمل، ويزول إن لم يذكره شاعر أو عمل مبدع أياً يكن. وليتذكَّر السياسيون (على سبيل المثال لا الحصر) أن الخديوي اسماعيل في مصر لم يَخْلُدْ بعدد مراسيمه الخديوية، ولا بعدد الطرقات التي شقَّها في القاهرة على عهده، ولا بعدد الحكومات والوزراء في ولايته، بل هو خالدٌ لأنه كان وراء وضع أوبرا “عايدة” (حين طلب من فيردي وضع عمل إبداعي كي تَحتفل مصر بالانتهاء من شق قناة السويس)، ولأنه أنشأ في عهده “أوبرا القاهرة”، ولا يزال التاريخ يذكر فضله في تكليف فيردي وضع “عايدة” وفي إنشائه دار الأوبرا احتفاء بتلك المناسبة.
كثيرة هي الأمثلة المشابهة في التاريخ. لكن الأبلغ منها أن الشعراء الكبار المتمكِّنين، حين يصدر عن شاعرٍ شعرٌ سيِّئٌ غيرُ ذي مستوى، يبادرون الى السخرية منه بأنه… “كلام سياسيين”.