29 نيسان 2008 العدد 12541 السنة 37
(الى ا.ع.ع.ا)
عند صدور مقالي الماضي رقم 54: “أحزان الخليجية السمراء” (الثلثاء الفائت في “القَبَس”)، جاءتني من سيّدة (أو آنسة!؟) رسالة إلكترونية علّقت فيها على المقال في نصٍّ وجداني طويل مَهَرَتْهُ بتوقيع “سمراء أخرى خليجية”. وواضح من النص تعلُّقها بلبنان حتى الوَلَه، وقلقُها الراعب من ضياع صيغته وفرادته وتَميُّزه. وطالما الرسالة الإلكترونية لا يمكن تقدير مصدرها المكاني (من أيّ بلدٍ في الخليج)، أكتفي بتوقيع صاحبة الرسالة، شاكراً لها تعليقها النبيل، وقاطفاً منه أبرزَ ما في لَهفتها على لبنان وبيروت:
“… بيروتُكم هذه ليست بيروتَكم وحدكم، بل هي بيروتُنا جميعاً، بيروتُ الحلم والغاية والجمال، بيروتُ الواحة التي لا نقصدها بل نؤُمُّ إليها، ولا نسكن فيها بل تسكن فينا حتى ونحن في بلدنا هنا أو خلال أسفارنا في كل هناك”.
وتواصل الخليجية السمراء: “لا صيف نذوقه صيفاً إلاّ في لبنان. لا أوروبا تغرينا بباريسها ولندنها، ولا سواها من العواصم والمدن، بل لبنان رغم الحذر فيه والخطر هو الذي يشدُّنا إليه، الى بَحره وجباله، الى فاكهته ولياليه وسهراته ومقاهيه، الى فنادقه ومنْتزهاته، الى طرقاته ومصايفه، وخصوصاً جداً الى ترحاب أهله ومناخه الفريد وطقسه الصافي وشمسه اللطيفة وقمره الأخضر”.
وتنثر الخليجية السمراء حبَّها لبنانَ بعد: “لا أريد أن أنتظر هدوءه أو سلامه. لبنان عندنا ليس ظرفاً سياسياً. إنه أكثر أرضٍ حيَّةٍ على هذه الأرض. وهو لا يعني شعبه وحسب، بل الشعوب الوفية التي على ترابه تَذُوق الطبيعةَ الأُمّ وتغتذي منها. لا أرى أنّ السياسيين هم الصالحون لقيادة هذا الوطن الاستثنائي، وأرفض أن يقرروا هم مصير شعبه ومصيرنا معه. قدره ليس مُلْك سياسيّيه. نَحن السياح، وتَحديداً نَحن النساء، نتنفّس في لبنان ملء رَحابتنا، وننعم بِحياةٍ رغيدة سائغة نشعر معها بالمساواة مع الرجل. نشعر بأنوثتنا أكثر. صدّقني أنني، في لبنان، أشعر أنني أجمل. حتى صوري المأخوذة في لبنان تُظهرني بأبْهى جمالي، فجمال لبنان ينعكس على شعبه وسياحه وزوّاره، وأحسه ينعكس أكثر على النساء السائحات فيه والزائرات. لبنان يُحب الجمال ولا يَلعنه ولا يُلاحقه ليعتقلَه أو يعاقبَه. الجمال في لبنان ليس موضع “تابو” بل موضع تقدير واحترام واحتفال بكلّ مَخلوق. لا أقول شعراً في هذا الكلام ولا نثراً، بل أفيض بِما في شعوري وإحساسي وضميري وقلبي. وصّدقني – أيها الشاعر المجنون بوطنه كما لم أقرأ لكاتب أو شاعر عن وطنه بهذا الجنون-، لو ان كثيرين يشعرون تجاه وطنهم كما تشعر أنت تِجاه لبنانك، لكان السلام غَمَرَ كلَّ وطن”.
وتختم الخليجية السمراء:”هوذا لبنان الذي وَعَينا عليه أطفالاً يَصحبُنا إليه أهلنا في فصل الصيف، وفي سائر الفصول يخبروننا عنه ويتداولون في حديثه ويُمنِّنُونَنا بالذهاب إليه من جديد. لبنان الحرية، لبنان الذي لا يطارد امرأةً تقود سيارة، ولا يعاقب امرأةً تزوغ في الهواء الرحب خصلاتُ شعرها الأشقر، لبنان السهر الذي لا يؤوب الى بيته إلاّ حين يدخل القمر غرفة نومه، يؤلمنا كيف باتت بيروتُـهُ أسلاكاً شائكة بين البنايات، وخياماً فارغةً في الساحات، وتوجُّسَ قلَقٍ على الطرقات. هذه ليست بيروتَكم ولا بيروتَنا بل بيروتُهم هم، أولئك الذين أعملوا في لبنان خناجرهم المسمومة فأفسدوا دم بيروت ودم لبنان وامتدّ منه الدم الفاسد الى شرايين المنطقة. لكنهم لم يفسدوا لبنان الذي في قلوبنا، ولم يتغيّر في قلوبنا ولن يتغيّر، وسوف يبقى في انتظاراتنا أجمل الانتظارات”.
تلك مقاطع من رسالة الخليجية السمراء، وفيها مقاطع أخرى لا تقلُّ إيماناً بلبنان ولا تفاؤلاً بمجيئها إليه، ولا ثقةً بانتظاراتِها النبيلة. فما أنبلَ انتظاراتِها عودةَ هذا الوطن الموقوف، بسبب سياسيّيه، على ناصية الانتظار.