هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

53- كي تختفي من وطني الطَّرحاتُ السُّود

15 نيسان 2008 العدد 12527 السنة 37

تسألُني الزميلة كابي لطيف (في مقابلة هذا الأسبوع، من برنامَجها في إذاعة مونتي كارلو، تذاع مساء اليوم الثلثاء) عن مصدر هذا “الدفق المتواصل في حب لبنان”، لا يَني ولا يَهِن، لا يكلّ ولا يَمَلّ، لا يَـيْأس ولا يُحبَط، بل يظلُّ ينهال على قلمي كلَّما أَكتب أو أَخطب أو أُحاضر أو أَتَحدَّث في مَجلس خاص أو عام. فأجيبُها – في تَدَفُّق النهر الذي لم يتعلَّم الجرَيان -: “مصدر هذا الدفق أنّ لبنانَ أبي وابني معاً: أحتمي فيه على أنه أبي، وأحميه على أنه ابني. هذا الدفْقُ المتلاحق يأتي من خوفي عليه، من وَجَعي معه، من قلَقي فيه، ومن غضبي على مَن يقودونه من أزمةٍ الى أزمة، ومن حربٍ الى حرب، ومن موتٍ الى موتٍ أكثر”.
وتعود كابي تسألُني إن كنتُ أصدّق أن هؤلاء يقرأُونني، فأُجيبُها، باندفاع المؤمن الواثق، أنني أعرفهم لا يقرأونني ولا يسمعونني، وإذا قرأُوا لا يأْبَهون، وإذا سَمِعوا لا يتأثّرون. أعرف أنَّهم ليسوا هم أصحابَ قرارهم، بل هُم دمًى من قشٍّ أو قماش، يُحرّكهم جهاز “ريموت كونترول” من هنا أو من هناك أو من هنالك.
لا. ما هَمّي هؤلاء، قرأُوا أو لم يقرأُوا. هَمّي أنا شعبي. قلَقي شعبي. وجَعي شعبي. وكتاباتي جميعُها موجَّهَةٌ الى شعبي. شعبي كي يتّعظ. شعبي كي يغضَب. شعبي كي يثُور. شعبي كي يعي أنه هو الذي يغيِّرُ المعادلة فلا يعود قطيعاً في زريبة هذا السياسي أو ذاك، ولا حبوباً في مسبحة هذا السياسي أو ذاك، ولا حطَباً في موقدة هذا السياسي أو ذاك.
هَمّي شعبي حتى يتَّحِدَ فيقول “لا” لِمعظم هذا الطقم السياسي، ولِجميع الْمُتَناهِشينَهُ يتنازعونه الى هنا أو الى هناك، يتدافعون على حُكْمٍ أو وزارةٍ أو نيابةٍ أو زعامة. شعبي كي يفهم بأنه هو الحُكْم، وهو الوزارة، وهو النيابة، وهو هو الزعامة، وأنّ السياسيين بدونه عاطلون عن العمل، عُراةٌ من كلّ قيمة وكلّ مكانة وكلّ صوت وكلّ معادلة.
هَمّي شعبي كي لا يلومَ الدُّوَل ولا “المجتمع الدولي” ولا “مجلس الأمن” ولا “الأمم المتحدة” ولا “الدول الكبرى” ولا “الدول الحليفة” ولا “الدول الصديقة” ولا “الدول الشقيقة”، بل كي يلومَ أهل البيت وقادة البيت وساسة البيت الذين ارتضَوا أن يكونوا مستسلِمين أو مستزلِمين أو مسلِّمين رقابَهم لـ”المجتمع الدولي” أو لـ”مجلس الأمن” أو لـ”الأمم المتحدة” أو لـ”الدول الكبرى” أو لـ”الدول الحليفة” أو لـ”الدول الصديقة” أو لـ”الدول الشقيقة”.
هَمّي شعبي الذي غرّروه كي ينتخبَهم فانتخبَهم، وها هم اليوم يُخاطبون غرائزه الدينية والمذهبية والطائفية والمناطقية والعائلية والعشائرية والاصطفافية، كي يظلُّوا هم على رأْس القطيع: خطباء حماسيين، أو مواقِفيين كيديين.
هَمّي شعبي أن يعي (أو أحبُّ أن أظنَّ وأقتنعَ أنه يعي) كيف يَخلع عنه إرث الاستسلام والاستزلام، وإرث الانقياد الأعمى والانصياع الأغبَى، وإرث تنكيس الرأس أمام “البك” والقائد والسيّد والزعيم وصاحب المعالي والسعادة والسيادة والفخامة.
شعبي كي يفهم أنّ كرسي الحكْم هو يَحمِلُها، وهو يُسقِطُها، فيَسقُط عنها جميعُ الذين عليها ولا يعودون يقومون، فيقوم الوطن عندها سليماً معافى طالعاً من حُفرة سياسييه الى قمم أبنائه الْجُدد.
الى هؤلاء أكتب، يا عزيزتي كابي، ولا بُدّ لنقطة الماء من أن تَحفرَ جدار القلعة، ولا بُدّ لنقطة الحبر من أن تَخترقَ الورق الى الضمائر، ولا بُدّ لنقطة الدم من أن تتناسلَ نَهراً من الغضب يُطيح جميعَ الذين ساسُوا وطني (وطني الذي هو أبي وابني معاً) فجعلوهُ نَهراً من الدموع والدماء، ومواكبَ نِسوةٍ متَّشحاتٍ بالسواد، وعلى رؤوسهنّ المهزومة طرحاتُ الحِداد.