8 نيسان 2008 العدد 12520 السنة 37
عن الزعيم البريطاني ونستون تشرشل (1874-1965) رئيس الوزارة حقبتين (1940-1945 و1951-1955)، وكان، الى زعامته السياسية في الحكم أو في المعارضة، خطيباً وكاتباً ومؤرّخاً وفناناً، أنه كان ذا سخرية لاذعة تنُمُّ عن ذكاء لديه حادٍ وسرعةِ بديهةٍ لافتةٍ جعلت خصومه يتهيّبون أجوبته ويُحاذرون التهجُّم عليه.
من سخرياته اللاذعة، مثلاً، ذات لقاءٍ مع الليدي نانسي أستور (1879-1964، أول مرأة تدخل مجلس العموم البريطاني) أنها قالت له مازحة: “لو كنتَ زوجي، لدسَسْتُ لكَ السُّم في كوب الشاي”، فعاجلها تشرشل في سخرية حادة: “ولو كنتِ زوجتي لشربْتُ الكوب فوراً”.
ومن سخرياته اللاذعة أيضاً، ذات لقاء مع الكاتب المسرحي البريطاني جورج برنارد شو، أن هذا الأخير بادره بسخرية: “سأرسل لك بطاقتين الى الليلة الأُولى من مسرحيتي الجديدة. فاصطحبْ معك صديقاً، إن كان باقياً لك صديق”، فعاجله تشرشل بسخرية أشدّ: “لا أستطيع أن أحضر في الليلة الأُولى. لكنني قد أحضر في الليلة الثانية، إن كانت باقيةً ليلةٌ ثانية”.
ومن أقواله الشهيرة عن أحدهم: “لديه جميع الفضائل التي لا أحبُّها، وليست لديه نقيصة واحدة أحبُّها”. أو قوله عن آخر: “هو شخص متواضع عادي، ذو حسنات كثيرة تدعو الى التواضع”.
ومِما يؤْثَر عنه أنه كان دوماً يُجيب عن السؤال بسؤال آخر ذكيّ، كي يتجنَّب الإحراج في الإجابة.
هذه الظاهرة، في ما يؤْثَر عن الكبار الخالدين، تشير بوضوح الى ذكاء حادٍ لدى حكَّامٍ في العالم يتناقل التاريخ أقوالَهم وتسجِّلُ الكتبُ والمؤلفات والمقالات عباراتٍ لَهم أو مقولاتٍ أو كتاباتٍ تذهب في الناس أمثلة وشواهد.
ومن المآثر كذلك أن معظم الحكّام في العالم تركوا الحكْم ووضعوا كتباً ومؤلفات وكتاباتٍ، منها مذكراتُهم وانطباعاتُهم وذكرياتُهم عن فترات حكمهم، ومنهم من يكون أصلاً مؤلِّفاً (كالرئيس الفرنسي الحالي ساركوزي أو كالرئيس الفرنسي الأسبق بومبيدو) وخلال حكمه يضع كتاباً أو أكثر ثم يكون طبيعياً أن يستمرَّ في وضْعه كتباً وكتاباتٍ بعد مغادرته الحكْم.
وأعترف أنني (بِمَجهولاتي الواسعة في شؤون السياسيين العرب، ومعلوماتي الواسعة في شؤون الكتب) لا أعرف حاكماً عربياً سجَّلَتْ له ولايتُه كتاباً (وضعه خلالَها أو بعدها) تذهب منه فقراتٌ الى الاستشهاد بِها أو ترجمتها الى لغات أجنبية حتى يصبح الاستشهاد بِها عالَمياً تتناقلها الأجيال في البلدان واللغات المختلفة. ولا أعرف حاكماً عربياً ذهبَتْ مؤلَّفاته الى اللغات العالَمية (كـ”مذكّرات” شارل ديغول أو “كفاح” أدولف هتلر أو “أمير” ماكيافيلي،…) حتى تصبح أقواله نَماذج أو أمثالاً، ساخرةً كانت أو فلسفية أو فكرية أو أدبية.
ليس هذا الكلام للتدخل في حكمهم أو في قيمتهم أو في صلاحياتِهم أو مصداقياتِهم، بل للإشارة الى أن الحاكم العربي، في شكل عام، مصاب بِملامح الإمساك والجدية القاتلة والوجه المقطَّب والفم المقفَل والخطاب النحاسي الصدئ: لا بسمة هنا ولا عبارة ساخرة هناك ولا نكتة سائرة هنالك، لا للإنتقاص من هيبة الحاكم بل لأن السخرية الجميلة دليل ذكاء مشرق براق.
فالحاكم، مهما يكن شديد الذكاء إنما لا يَمزح ولا يسخر، يبقى ذكاؤُه مقفَلاً على حساباته السياسية الشخصية وتصفية حساباته الغيرية، وهذا ما يَجعله يغيب في النسيان فور مغادرته الحكم إن لم يكن قبلذاك: حين لا يزال “مُتَمَتْرِساً” في كرسي الحُكم.