25 آذار 2008 العدد 12506 السنة 37
عن الدالاي لاما أنه سئل: “ما الذي يأخذُك في البشر”؟ فأجاب: “أنّهم يَخسرون صحَّتهم ليجمعوا المال ثم يَخسرون مالَهم ليسترجعوا صحتهم، وأنّهم يصرفون حاضرهم في التفكير بالمستقبل فينسون الماضي ولا يعيشون الحاضر ولا المستقبل، وأنّهم يعيشون كأنّهم لن يَموتوا، فيموتون كأنّهم لم يعيشوا”.
بعضُ هذا القول ينطبق اليوم على شعب لبنان. فهو يعيش قلق المستقبل ولا يعيش حاضره لأنه يرى في ماضيه إشراقاً فيحاول استشفاف هذا الإشراق في المستقبل، وحين لا يَجده يكون خسِر حاضره.
مع صدور العدد الماضي من “القبس” اتصل بي صديق من فرنسا قرأ مقالي (“قبس من لبنان” رقم 49: “المسؤول عن هجرتهم وتهجيرهم؟ السياسيون”) معاتباً إياي على تَحميلي السياسيين اللبنانيين وحدهم مسؤولية هجرة اللبنانيين وتَهجيرهم، مذكِّراً إياي (!؟!) بأن الشعب اللبناني مغامر في طبيعته منذ أجداده الفينيقيين ويُحب غمار البحر واكتشاف البلدان الأُخرى.
لم أُناقش هذا الصديق لأنني أعرفه مسيَّساً مَحدود الحوار، لا يرى من لبنان إلاّ زعيماً سياسياً واحداً يستزلِم له، ويرى أن كل ما يقوله هذا الزعيم صحيح لا يُخطئ. غير أن هذا الصديق، كسواه الكثيرين، ينطبق عليه ما يسميه أمين الريحاني “الجمل الأعور” الذي لا يرى من الطريق إلاّ جهة واحدة هي جهة عينه المفتوحة.
معظم الشعب اللبناني اليوم (عدا قلةٍ متنوِّرة غير مسيَّسة وغير مسيَّرة ببغاوياً قطعانياً) هو هكذا اليوم: جمل أعور لا يرى من لبنان إلاّ جهة عينه المفتوحة. وهو هذا حاضر اللبنانيين اليوم: واقعون بين مطرقة هذه الفئة، وسندان تلك. هذه تدّعي أن الحقيقة الى جانبها، وتلك ترى خلاص لبنان في يدها وحدها. والخلاص؟ لا يراه شبابنا اللبنانيون إلاّ في منفذ واحد: باب سفارة تَمنحهم تأشيرة دخول الى بلدان الله الواسعة، حيث الدولة للجميع ولا تفرقة لديها بين كوتا مذهبية وكوتا سياسية وكوتا عشائرية.
وهكذا لا يعيش اللبنانيون حاضرهم، لأنّهم قلقون على مستقبلهم، ولأن هذا الطقم السياسي الفاسد في لبنان حرمهم من تذوُّق حاضرٍ وثير بل حاضر مرير يَحرمهم من استشراف المستقبل لأن هذا الطقم السياسي يقف جداراً سميكاً بينهم وبين المستقبل.
وإذا كان الدالاي لاما وجد البشر يَخسرون صحَّتهم ليجمعوا المال ثم يَخسرون مالهم ليسترجعوا صحتهم، فاللبنانيون (ويا قلقي على نبضهم الغالي) يَخسرون مالَهم ليربَحوا أولادهم فيَخسرون أولادهم الذين يهجرون الوطن الى الغربة القاسية، ويكون الآباء خسروا مالَهم ولم يربَحوا أولادهم، بسبب طقم سياسي يَحكم لبنان بِمنطق العشيرة والمزرعة لا منطق الدولة.
وتكفي قراءة صفحة الوفيات في الصحف اللبنانية كل يوم، لاكتشاف أنْ ليس في لبنان عائلة لبنانية واحدة تَخلو من أحد لديها في المهجر. وكل هذا لا يوجع السياسيين ولا يؤرّقهم. فمعظمهم أولادهم في الخارج هانئون، يطمئنون عليهم سفراً إليهم أو اتصالاً بهم كل يوم، ولا يشعرون قط بوجع الناس الذين يتحرَّقون شوقاً الى أولادٍ لهم يَخافون أن يطلبوا إليهم زيارة لبنان خوف تدهور الوضع الأمني أو العسكري أو السياسي، لأن الدولة من دون سقف حماية، ولا تَحمي إلاّ مَحاسيبها وقطعان الأزلام.
بين السياسيين في لبنان والشعب اللبناني هوّة سحيقة لن يردمَها إلاّ زوال هذا الطقم الذي منذ أكثر من نصف قرن يَحكم لبنان بالوراثة من جدٍّ الى أب الى حفيد، كأن السياسيين وارثون الشعب أباً عن جَدّ، كما ورثوا المزارع والعقارات والعاملين فيها.
وتريدُني بعد، يا صديقي الهانئ في باريس، أن أرحم هذا الطقم السياسي الفاسد الذي يودي بشبابنا الى المهاجر النائية؟