18 آذار 2008 العدد 12499 السنة 37
عُدتُ الأسبوع الماضي من الرياض (في المملكة العربية السعودية)، كما أَعود عادةً من أية مدينة أو عاصمة عربية، وكما عدتُ قبل أسابيع من الكويت، مُمتلئاً غبطةً واعتزازاً ووطنياً مِمّا عاينتُهُ، عادةً في مثل هذه الأسفار، من حُضُورٍ لبنانِيٍّ مُمَيَّز، وفعْلٍ حضاريٍّ يُجَسِّدُه اللبنانيون في الوسط الذي يَملأُونه حُضوراً مِهنياً أو احترافياً أو حِرَفياً يَجعلُهم ذوي مكانةٍ واحترام.
هذا الحضور اللبناني في العواصم والمدن العربية (وهو ليس حضورَ هجرة، بل عملٌ معظمُهُ مؤقَّت وقليلُه مستوطن) يؤكّد أنّ الثروة الحقيقية التي خسرها لبنان هي ثروة العقل اللبناني الخلاّق المبدع المستنبط الواعي الذي يشُعُّ في كلّ مُجتمعٍ يذهب إليه.
وإذا كان في جميع المجتمعات جالياتٌ مُختلفة، بعيدةٌ أو قريبة، يعمل أفرادها في الميادين والحقول، فأبناء الجالية اللبنانية في كلّ مُجتمع يتميّزون بتفَوُّقهم وبراعتهم وذكائهم ودماثتهم، وخصوصاً بإخلاصهم للمجتمع الذي يكونون فيه، وغالباً ما لا يَجيئونه لوحدهم بل يصطحبون إليه عيالهم وأولادهم وفيه، كباراً وصغاراً، ينخرطون.
هذه الظاهرة اللبنانية للحضور اللبناني في عالم الانتشار اللبناني تَحمل الى سؤال يوجِع من حرقة: “هؤلاء اللبنانيون البارعون الناجحون في ميادين اختصاصهم (الطب، المقاولات، التعهدات، الهندسة، الديكور، البناء، العلاقات العامة، الصحافة، المصارف، الإعلام، الوظيفة، الإدارة، …) ماذا لو انهم لم يغادروا لبنان وظلُّوا فيه يعملون ما يعملونه في حيثما هم اليوم، أو: ماذا لو توافرت لهم في لبنان الفرص المتاحة لهم في حيثما هم اليوم، وعاد لبنان الى لبنان وعادوا إليه جميعهم فيحتضنهم لبنان من جديد ويطلق لهم عقولهم وأيديهم في الاستنباط والإبداع”؟
ومن هذا السؤال الموجِع الى سؤال أكثر وجعاً وإيلاماً: مَن الذي أدّى بهؤلاء الأحبّة الى الهجرة البعيدة (أميركياً وكندياً وأسترالياً)، أو الوسطى (أوروبياً وأفريقياً) أو القريبة (عربياً)؟
مَن؟ معروف جداً مَن: إنهم السياسيون… الذين، بِجهلهم أو تَجاهُلهم، بساديّتهم أو مازوشيّتهم، بنرسيسيّتهم أو شخصانيتهم، بأحقادهم أو كيدياتهم، بِمناوشاتِهم أو مهاوشاتِهم، بتآمُرهم أو تواطؤهم، بِحروبِهم الكلامية أو الأمنية، وبكل ما يؤتونه من ظروف ويسببونه من أوضاع، هم وحدهم سبّبوا هجرة العقل اللبناني الخلاّق. إنهم السياسيون الذين (في الْحُكْم أو خارج الْحُكْم) يهدمون مستقبل الوطن عوض أن يبنوه، لأنهم عقيمو النظرة أو خَوَنَة المنظور.
وإذا كانت الهجرة اللبنانية الأولى (الربع الأخير من القرن التاسع والربع الأول من القرن العشرين) تسبّبت بها الأوضاع السياسية الخارجية في لبنان (السلطنة العثمانية والحرب العالمية الأولى والانتداب الفرنسي)، ولم يكن للّبنانيين يد فيها ولا سبب، فالهجرة الثانية (1975-1990) والهجرة الثالثة (1990 حتى اليوم) مسؤول عنهما طقم سياسي لبناني حاكم فاسد ساهم مباشرةً في تَهجير العقل اللبناني الى بلدان أسهم اللبنانيون في نهضتها بشكل واضح يعترف لهم به الجميع.
لا يرميَنَّ أحدٌ اللوم على وضع اقتصادي أو اجتماعي أو معيشي لتبرير الهجرة. هذه الأوضاع جميعها لا سبب لها إلاّ واحداً: السياسيون.
لبنانيون الانتشار يعرفون هذا ويلعنونه. بقي أن يعرفه لبنانيو الإقامة في الداخل فيشيحوا عن الاصطفاف قطعانياً عميانياً ببغاوياً وراء سياسيين أقلُّ ما يستاهلون: مُحاكمةٌ قاسيةٌ ترمي بِهم، من دون أَيّ أَسف، الى ظلمات السجون المؤبدة.