26 شباط 2008 العدد 12478 السنة 36
أخبرني صديق لي عن رحلة قام بها وزوجته الى اليابان، وعاد منها متأثِّراً بِما شاهد هناك من نظام ونُظُم وتنظيم وانتظام، وخصوصاً ما جرى له في القطار من كيوتو الى طوكيو: كانت الرحلة ثلاث ساعات ونصف الساعة، وقبل بلوغ طوكيو بنصف ساعة أخذ المسؤول يذيع معتذراً عن اضطرار القطار الى التأخير دقيقتين و11 ثانية عن موعد وصوله المقرر. وبقي يكرر هذين الإعلان والاعتذار كل خمس دقائق حتى بلغ القطار المحطة وكان عليها طاقم أرضي كرّر اعتذاره لجميع الركاب المترجّلين.
وعن صديق لي آخَر أنه كان مع زميل له ياباني في الرحلة المعاكسة بين كيوتو (العاصمة القديمة) وطوكيو (العاصمة الحالية) ينتظر على المحطة وصول القطار واقفاً، بحسب تذكرته، على الخط الأصفر (في اليابان ينقسم الركاب الى خطوطٍ بين أخضر وأحمر وأصفر، عوض الانقسام فئات أولى وثانية وثالثة، تَحاشياً للتمييز الطبقي). ولدى وصول القطار توقّفت المقطورة الصفراء بعيدةً نحو نصف متر عن ركاب الخط الأصفر مِما اضطرّهم الى التحرك نصف متر كي يستقلّوا باب مقطورتهم الصفراء.
أمام هذه الدقة المذهلة خطر لصديقي أن يُمازح صديقه الياباني فأظهر امتعاضه “من عدم الدقة في توقُّف باب المقطورة الصفراء بعيداً نصف متر عن الخط المفترض أن تقف عنده”. وإذا بزميله الياباني يرتبك ويعتذر مؤكداً أن هذا لا يَحدث في اليابان الشديدة الدقة، ومعتذراً عما حصل. وطوال الرحلة كان المسؤولون في القطار يتناوبون على المجيء الى المقطورة يعتذرون من اللبناني الذي “انزعج” من توقُّف باب المقطورة الصفراء نصف متر بعيداً عنه.
وكانت دهشة اللبناني أكبر حين ترجّل من القطار في طوكيو وفوجئ بِمدير المحطة شخصياً يتقدم من المقطورة الصفراء يسأل عن اللبناني “المنْزعج”، ويعتذر منه عما حصل، مؤكداً أنّ هذا لا يَحصل عادة، وأنّ الإدارة ستتّخذ الإجراءات التقنية كي لا يَحصل هذا مرة ثانية فلا ينْزعج “الركاب الكرام”. وأمام هذا الاعتذار العالي الأخلاق طيّب اللبناني خاطر المدير بأن “هذا يَحصل في كل مكان من العالم”، فأجاب المدير حازماً: “لكنّ هذا لا يحصل في اليابان”.
أمام هذا الأمر، واعتذار المسؤول (وتالياً مُحاسبة المسؤول عند اللزوم في البلدان الراقية)، توقفتُ متسائلاً عن مدى إمكان مُحاسبة المسؤول في العالم العربي عن تقصير أو وقوع أي خطأ في مؤسسته.
أما موضوع “الوقت العربي” فأحيل قرائي الى حادثة جرت معي في إحدى الدول العربية قبل أشهر: كنتُ في مطعم الى دعوة غداء، واضطررتُ أن أغادر قبل الآخرين كي أكون في فندقي على وقت مُحدد لِموعد مع صحافي في بَهو الفندق. وفور دخولي التاكسي سألت السائق عن الوقت الذي نستغرقه لبلوغ الفندق فأجابني: “سنصل بعون الله” فلم أفهم. وكرّرتُ السؤال عما إذا كان الطريق الذي سيسلكه يكون عادة مزدحماً في مثل هذه الساعة فأجابني: “الأمل بالله” فلم أفهم. وسألت من جديد: “يعني، تقريباً، في سير عادي، كم يستغرق الوقت لاجتياز المسافة بين هنا والفندق؟” فأجابني: “حسب التيسير إن شاء الله” فلم أفهم. واعتذرتُ عن لهفتي في الأسئلة لأنني مضطرٌّ ألاَّ أتأَخَّر على ضيفي الصحافي في الفندق فقال: “بمشيئة الله لن تتأخَّر”.
وكانت حصيلة كل هذا الحوار أننا تأخرنا نصف ساعة عن الموعد لأن صاحبنا أخذ طريقاً أطول من المفروض أن يأخذه.
وبين نصف متر في اليابان ونصف ساعة في العالم العربي، لا نَجد اعتذاراً من مسؤول بل مقولة “لا حول ولا قوة إلا بالله”.