19 شباط 2008 العدد 12471 السنة 36
كأنما لا يكفي اللبنانيين ما يعانونه من انقسامات سياسية بين القيادات السياسية، تنعكس انقسامات بَبَّغاويَّة قطعانيَّة عميانيَّة في صفوف الناس، فيتشرذمون ويتشتَّتون ويتفتَّتون أخصاماً مسعورين ضدّ بعضهم البعض منصرفين الى تنفيذ أوامر أسيادهم بالتفرقة بين شارعٍ وشارع، بين حَيٍّ وحَيّ، بين تيارٍ وتيار، بين عائلةٍ وعائلة، بين فردٍ وفردٍ في قلب العائلة الواحدة، بين بيتٍ وبيتٍ في الحي الواحد، بين شابٍ ورفيقِهِ في الشارع الواحد،
كأنما لا يكفيهم هذا الْجَلْدُ اليومي على شاشات التلفزيون وما يعانُونه ويعايِنونه من برامج “توك شو” سياسية مقْرفة يتسابق فيها السياسيون على التشاتُمات والاتهامات والتصايحات المسعورة،
كأنما لا تكفيهم هذه الفولكلورات اليومية البشعة من اليافطات المتلاطمة المتلاحقة، والصور الكبيرة على الجدران والسطوح، والبيارق المتنافسة على الشرفات، والشعارات على الحيطان وفوق الشوارع وعلى عرض لوحات الإعلانات الضخمة بـرموز وأسماء واعتبارات واستعبارات وعبارات وتعابير بعضها تَهييصي وبعضها استفزازي،
كأنما لا يكفيهم كل هذا التشلُّع والتوزُّع والتضعضُع،… حتى جاء المشهد الفاجع المفجع المفجوع نهار الخميس الماضي (14 شباط/فبراير الجاري) في ساحة بيروت، ساحة الشهداء، ساحة البرج، ساحة الكرامة والوحدة، ساحة قلب بيروت، ساحة لبنان اللبناني، فإذا لبنانيون من هنا ولبنانيون من هناك، يفصل بينهم (يا للعار) يفصل بينهم (يا للشماتة) يفصل بينهم (يا لخجلنا من شهدائنا) يفصل بينهم شريط شائك، شريط حديديّ، شريط مرتفع، يمنع عليهم مدّ الأيدي للمصافحة، يفتح بينهم فالقاً زلزالياً من الانفصال، يصور لهم الحقد في عيونهم والحقد المضادّ في عيون الآخرين مقابلهم، يَحقنهم بالبغض، يشحنهم بالضغينة، ويرسّخ في أذهانهم أنهم فريقان في منطقتين، في وطنين، في حضارتين، في ثقافتين، لا كأنه شريط حديدي بل كأنه شريط حدودي “برلينِيّ”.
هذا ما أوصل السياسيون اللبنانيُّون اللبنانيِّين إليه: أن يكون الشعب منقسماً كي يظلُّوا هم حاكمين متحكِّمين مسيطرين مهيمنين ويبقى الشعب أمامهم قطعاناً تتشاتم وتتلاطم يستعر بعضها ضدّ البعض الآخر وفق مواقع سياسييهم هنا أو هناك أو هنالك.
بيروت التي جاء وقت كانت فيه زنبقة الشرق، بيروت الجمال والوحدة والحياة الواحدة (لا “التعايش” و”العيش المشترك” كما يتغرغر بذلك السياسيون)، بيروت اللؤلؤة التي كانت مرنى العرب وموئلهم وملجأهم وجامعتهم ومستشفاهم وواحتهم وساحتهم الأجمل، صارت ساحة متشققة بالتفرقة بين أبنائها وأبناء لبنان، بمشيئة سياسيين لا يمكن أن تقوم لهم قائمة إلاّ إذا قاموا على قيامة أكتاف القطعان من أزلامهم والمحاسيب يرفعون الأصابع في الهواء، والأيدي في الهواء، والزنود في الهواء، والرؤوس في الهواء، والصراخ في الهواء، تعييشاً وتَهييصاً “بالروح بالدم نفديك يا…”.
فهل… هذه هي بيروت؟
هل هذه بيروتُنا نَحن؟ نَحن الذين يعتبرون بيروت جوهرة الثقافة والعيش الواحد والحياة الواحدة؟
أبداً. لا هذه بيروت ولا نعترف بها. إنها بيروتُهم “هُم”، بيروت الوهم الذي سيزول عند أول صحوة لتبقى بيروتُ الحقيقية بيروتَ الحضارة والثقافة والريادة، بيروتَ الأبطال الذين سقطوا كي يبقى لبنان لبنانياً بِبَيروته اللبنانية من أول فجر الى… أول فجر.