29 كانون الثاني 2008 العدد 12450 السنة 36
أُتركُوه هذا البلد. أُتركُوه بصيغته الفريدة. أُتركُوه لصيغته المتميزة. أُتركُوه لتركيبته المغايرة. أُتركُوا لبنان يبقى لبنان.
“دَعُوا شعبي يعيش” كتب عميدُنا غسان تويني يوماً (وكان سفير لبنان في الأمم المتحدة). واليوم، أكثر من أي يوم مضى: أُتركُوا لبنان يعيش، وشعبَ لبنان يعيش، ومستقبلَ لبنان يعيش.
هذا البلد اللؤلؤة (بشهادة أكثر الخارج وجهْل أكثر الداخل) أُتركُوه يبقى لؤلؤة. ولؤلؤيَّتُهُ هي في كونه ليس ساحة مباحة، بل واحة وضّاحة. الواحة هي الخصوبةُ وسْط صحراء، والساحة عاهرةٌ مفتوحة للجميع: مُخْلصين ومُغْرضين، زائرين ومُحتلّين. فاتركُوه، هذا اللبنان، واحة وضّاحة ولا تقزّموه الى ساحة مباحة.
الواحة تتجسّد في نظامه الديمقراطي واقتصاده الحر ووحدة عائلاته الروحية، وخصوصاً خصوصاً: في تركيبته المتنوّعة بالوحدة الوطنية، في الأسرة اللبنانية المتعدّدة البيوت. ما أغنى الأسرة المتعددة البيوت، وما أتعس الأسرة ذات البيت الواحد أو القصر الواحد أو الخيمة الواحدة.
أُتركُوه هذا اللبنان يبقى لبنان، لا نسخةً عن مُحيطه القريب أو البعيد. أتركوه بعيداً عن البروتوتيبية (الصورة النمطية) العربية. أُتركُوه بلد الملتقى، منبر حوار الثقافات، لقاء الحضارات، بلد احترام الرأي الآخر والموقف الآخر. أُتركُوه واحةً بعيدة عن صحارى الصِّـيَغ الإحادية العربية. أُتركُوه تَجسيداً رائعاً لِمَقولة الإمام الشافعي: “رأيي صوابٌ يَحتمل الخطأ، ورأيكَ خطأٌ يَحتمل الصواب”. لا تَجعلوه على الخارطة العربية نسخةً إضافية عن الاستفتاء الكوميدي الذي يُسْفر عن “التأييد الشعبي المحبوب” بنسبة 99،99%. أُتركُوه (بطبيعته الفريدة ومناخه الخاص ومعطياته الجغرافية والتاريخية) منارة لكُم قبل أن يكون للعالم.
أُتركُوه يظلّ كما هو، كما عرفتمُوه، كما أحببتمُوه، كما طويلاً تشبَّهتُم به، كما طويلاً تَمنّيتمُوه نَموذجاً لبلدانكم. أُتركُوه يظلّ كما هو، لبنانكم الحلم الذي تَنشُدون اليقظة على أرضه.
لا تَحكموا عليه بِما تشهد ساحته اليوم، لأن ما يَجري ليس من شيَم اللبنانيين ولا أصالتهم ولا تراثهم. إنه صراع الدول على أرضه بأيدي حفنة عاهرة من أزلام السياسيين ومَحاسيبهم، من فعل رعاعٍ يسيرون عميانياً قطعانياً أغنامياً وراء سياسيين هم بدورهم مُلجَمِيُّون يوضاسيّون مستَزلِمون لِخارجٍ هنا أو هناك أو هنالك، يرفضهم الردح الأكبر من شعب لبنان الطيّب الذي لا يُمثّله سياسيون مرتبطون بعمالة للخارج، ولا هو يرضى بِهم بل يرفضهم وينتظر أول انتخاب ليتخلّص منهم ومن عمالتهم وأعمالهم واستعمالِهم بعضاً من شعب لبنان قطعانَ أزلامٍ لهم ينفّذون بِهم مآربَهم ويسدّدون بِهم فواتير العمالة لأسيادهم في الخارج.
هذه التوتاليتاريا السياسية الخارجة عن مناخ لبنان الحضاري لن تتعمّم على لبنان ليصبح مثله مثل أي بلد عربي آخر تتحكّم به التوتاليتاريات القومية أو الأُمَمية أو الأوتوقراطيات الدينية أو الاصطفافات المعسكراتية الفئوية الأغنامية.
تعرفون جميعكم أنّ لبنان ليس هكذا. وأنتم تُحبونه لأنه ليس هكذا. تُحبّونه لأنه مغاير. لأنه حلمكم الجميل الذي يوجِعُكم اليوم جنوحُهُ الى التوتاليتاريا الأمنية والسياسية والعسكرية.
ديمقراطية الـ99،99% لن تتعمّم على لبنان ولن يصبح لبنان حبّة في سبحة منظومة عربية يعيش حكّامها راتعين على أمجاد الـ99،99%. قدَرُ لبنان أنه مغاير، وتُحبُّونه لأنه مغاير. ولا حاجةَ له ولا مبرر ولا قيمة ولا حضور، إن كان سيصطفّ رقماً إضافياً مع القافلة في قطيع “ديمقراطية” الـ99،99%.