24 نيسان 2007 العدد 12174 السنة 36
شرط اللغة، كي تُقنع متلقّيها، أن تكون لغة الحياة. وشرط الخطيب، كي يقنع سامعيه، أن يستخدم لحديثه لغة مشرقة سلسة سائغة يتلقاها سامعوه في ارتياح، وأن يلقيها بنبرة جلية واضحة سليمة صحيحة تجعل الإقناع أقوى.
غير أن الحاصل عندنا افتقاد معظم السياسيين الشرطين معاً: حين يقرأُون، يتهجَّأُون الكلمات أمامهم كأنهم يفككون نصاً هيروغليفياً فيشيح السامعون عن التركيز على ما يقولون، وحين يتبرّع هؤلاء السياسيون العباقرة بالارتجال الخطابي إلى منبر أو أمام كاميرات التلفزيون وميكروفونات الإذاعات، يكون التعتير والفضيحة والكاريكاتور اللغوي الذي يثير الشفقة قبل السخرية، والقرف قبل الضحك والبسمة الشامتة.
في العُرف السائد لدى السياسيين في العالم (حكاماً أو رؤساء أو ملوكاً أو وزراء أو ذوي مناصب سياسية عليا) أن يكون لديهم مَن وظيفتُهم بكل بساطة “كتَبة الخطب”، وليس عيباً أبداً على السياسي أن يكون لديه كاتب يضع له نصوص خطبه وتصاريحه وبياناته، لكن العيب أن يطل هذا السياسي العبقري على جمهوره بخطاب يغتال جميع قواعد اللغة فينقلب كلامه الجدي هزلياً، وتتكسر هيبة السياسي في عيون مناصريه وسامعيه ومشاهديه.
وليس عيباً أن يكون لديه كاتب خطب يكتب له نصوصه، ثم يعمد إلى تشكيل النص فتحاً وضمّاً وكسراً وتسكيناً، حتى يقرأه السياسي بأقل كسور ممكنة، لكن معظم السياسيين يرون الحركة على الحرف ويقرأون عكسها أو نقيضها فيثيرون السخرية.
وليس عيباً أن يكون لدى السياسي كاتب خطب يضع نصوصها ويشكّلها له تشكيلاً كاملاً ثم يدرّبه على إلقائها جهورياً، فالمعروف عن كبار الحكام في العالم أنهم يأخذون نص الخطاب من كاتبه ويتدرّبون على قراءته جهورياً أمامهم لتصحيح الأخطاء وتصويب اللهجة والنبرة ومخارج الحروف. والأحرى بسياسيينا (من غير شر) أن يتدربوا على قراءة نصوصهم جهورياً أمام كاتب خطبهم، فالخطأ أمامه وتصويب الخطأ وتصحيحه أهون بكثير من توزيع جهلهم وأمّيّتهم وتعتيرهم على آلاف سامعيهم ومشاهديهم.
لن نسأل هؤلاء السياسيين التكلُّم بالعامية إنقاذاً للجمهور من أخطائهم اللغوية الفاضحة المزعجة المقرفة الكاريكاتورية، مع كل الإيمان بأن اللغة المحكية العامية هي لغة القلب ولغة الحياة وهي أشد فعالية واختراقاً في أذهان المستمعين، لكننا نشيح عن هذا الأمر الآن لأنه ليس هو الموضوع، لكننا نسأل عبقرية هؤلاء السياسيين أن يتّضعوا ثلاثةً: تواضع إسناد خطبهم إلى من يكتبها، وتواضع تكليف كاتب خطبهم تشكيل نص الخطاب، وتواضع تكليف خاطرهم (من غير شر) بالوقوف أمام الكاتب المذكور وقراءة النص جهورياً لتصويب النبرة ومخارج الحروف واللهجة وأماكن الوصل والوقف عند النقطة والفاصلة، كي لا تكون قراءتهم تكسير حجارة في مقلع صخور على رؤوس السامعين والمشاهدين.
إن الحريصين على الفصحى، لكونها لغة مكرّسة، فليعوا أن معظم السياسيين يغتالونها ويبهدلونها ويشوّهونها، وتالياً يلغون حجج إقناعهم جميعاً، ولا ذنب لهذه اللغة سوى أن يتولى قراءتها… سياسيون جاهلون.