هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

392. إِيليان مهنَّا وسيميائيات الدلالة

إِيليان مهنَّا وسيميائيات الدلالة

03-08-2024 | 14:02 المصدر: بيروت- النهار العربي
هنري زغيب
إِميِلي نصرالله: النموذج التطبيقي الأَوضح

إِميِلي نصرالله: النموذج التطبيقي الأَوضح
 
منذ أَطلَّ العالِم اللغوي السويسري فردينان دو سوسورSaussure  (1857-1913) بنظرياته الأَلسُنية البُنْيَوية (دراسة الإِشارات الصوتية)، خصوصًا في كتابه الركْن “أَبحاث في الأَلسنية العامة (1916) الصادر بعد وفاته، أَخذَ هذا العلْم اللُغوي يتطوَّر من باحث إِلى عالِم إِلى مُنظِّر، حتى بلغَ اليوم درجةً ساطعة من الانفتاح على اللغة تراكيبَ ومفرداتٍ وكلماتٍ دلالية، ما جعله ضروريًا لفهم كل نص بغير المجهر النقدي التحليلي.
في هذا السياق تنبغي قراءة كتاب الدكتورة إِيليان مهنَّا “اللغة السردية، وتشكيل الصورة والمعنى، وسيميائيات الدلالة” (منشورات “دار النهضة العربية” – بيروت، في 208 صفحات حجمًا كبيرًا).
 
جوهر السيميائية
أَحسنَت المؤَلفة بجعل موضوعها قسمين بيِّنَيْن في فصلَي الكتاب: اللُّغة السردية على ضوء الصورة والمعنى (الفصل الأَول)، واللغة السردية على ضوء سيميائيات الدلالة (الفصل الآخر).
وانطلاقًا من أَن السيميائية، في جوهرها الأَساسي، “تبيانُ العلامات والإِشارات والرموز بُلُوغًا إِلى المعنى”، وبناءً على المثلَّث السيميائي نموذجًا نظريًّا لــ”إِيضاح العلاقة بين العلامة اللغوية ومعناها”، رسَت المؤَلِّفة في بحثها الجدّي العمْق على اللغة السردية المركزية أَساسًا للخطاب السردي. وهي اتخذَت من رواية إِميلي نصرالله (1931-2018) “تلك الذكريات” (1980) نموذجًا تطبيقيًّا لبحثها في الموضوع، ومرَّت أَحيانًا على نص ليلى بعلبكي (1936-2023) في روايتها “أَنا أَحيا” (1958)، وأَلمحت في بعض المفاصل إِلى رواية “أُحبُّها ولكنْ…” (2016) للدكتورة مها خير بك ناصر (وكانت فصَّلت دراستها الأَلسُنية عنها في العدد 200 من مجلّة “الحداثة” – ربيع 2019).
د.إيليان مهنا: دراسة صعبة بتبسيط منهجي ناجح
منصة البحث: الرواية
خلاصة الموضوع تعود دومًا، وهذا طبيعيٌّ، إِلى اللغة. منها البدايةُ وإليها المآل. وتختلف، إِبداعيًّا، باختلاف مُقارِبها، فتكون مرة وسيلةً (الرواية، المسرح، البحث العلْمي والأَكاديمي،…) ومرة غايةً (الأَبحاث اللغوية البحتة)، ومرة غايةً ووسيلةً (الشعر إِجمالًا، بعيدًا عن النظم).
الدكتورة إيليان مهنا، في كتابها العالي الرصانة البحثية، اتخذَت الرواية منصةً لبحثها المنهجي الموثَّق بصورة غنية، منطلقةً من أَنَّ “صحة كلِّ عملٍ روائي تحدِّدها اللغة”. من هنا تدقيقُها في الدراسة اللغوية، كي يتبيَّن الباحث “مستوى النص من خلال ما فيه من سمات وأَبعاد ومعطيات”. وهذا ما يستوجب دراسة التلازُم الوثيق الضروري بين دلالة الصوت وما يدل عليه من معنى.
وأَحسنت المؤَلفة في التمييز بين اللغة عمومًا وما يقد يَستحسن الكاتب الروائي من استخدام مفردات في لغته يقترحها الأَنسب لسياقه الروائي مُراعيًا مستوى القارئ فكريًّا وثقافيًّا.

“تلك الذكريات” الرواية المِثال

 
لا بدَّ من أَرسطو  
وأَحسنَت المؤَلِّفة بالعودة سحيقًا إِلى أَرسطو (من كتابه “فن الشعر”) وفيه تبسَّط في شرحه نظريةَ السرد (والسرد أَضعفُ مستويات الشعر)، لذا عالج السرد في الملحمة والتراجيديا والكوميديا، وما يتخلَّل هذه الأَنواع من حبْكة هي في جوهرها روائيّة ولو عولجت في هذه الثلاثة الأَنواع. مع أَن روائيين مبدعين مالوا في سردهم الروائي من اللغة النثرية الطبيعية إِلى اللغة الشعرية فخلقوا بُعدًا لنصهم أَجملَ من طبيعته الأُفقية، مرة بالترميز، مرة بالتخييل، مرة التأْويل.
أَرسطو” فن الشعر وتفرعاته على اللغة
 
الصورة جوهر الفكْر
في فضاء الصورة، تمهَّلت الكاتبة في تفصيل أن “الصورة جوهرُ الفكْر وماهيّتُه”، والماهية في رأْي أَرسطو هي “الجوهر”، وتاليًا “معرفة الصُورة تساعد على التعرُّف إِلى المعنى/الجوهر”. وهنا دور الفلسفة في قراءة الصورة ودلالاتها، لأَن الفلسفة قائمة على المنطق. من هنا تركيز أَرسطو على أَن “الأَفكار ليست صُوَرًا، سوى أَن الأَفكار لا تكون من دون الصُوَر”.
وعرفت إِيليان مهنا، بأَمانةٍ أَكاديمية، كيف تنقل النظرية إِلى التطبيق في رواية “تلك الذكريات” ونسيج إِميلي نصرالله فيها، خصوصًا بانتقالها في نصها السلس من المجرَّد (في الصوَر الذهنية) إِلى المحسوس، وهو ما تميَّزت به إِميلي نصرالله منذ روايتها الأُولى “طيور أَيلول” (1962) وما تلاها من روايات وقصص قصيرة.
 
غلاف الكتاب
البيانات الدلالية
رسمت المؤَلِّفة خارطةً واضحةً لمفهوم المعنى فلسفيًّا (“قيمة اللغة منطقيًّا”)، وشكليًّا (“تجلِّيات المعنى فلسفيًّا ودلاليًّا”) واستشهدَت، نموذجًا، بمفهوم كلمة “العذاب” في “تلك الذكريات”، للدلالة على أَشكال المعنى لُغويًّا.
ويَغْنى الفصل الآخَر من الكتاب برسوم البيانات الدلالية للسيميائية (جوهر الكتاب تأْليفًا) بالمقولات الأَولانية والثانيانية والثالثانية، وجميعها تؤدي إِلى كشف “علْم العلامات” حين “تُصبح العلامة شاهدًا وأَيقونةً ورمزًا”.
وتختم المؤلفة كتابها القيِّم خالصةً إِلى أَن المسار التحليلي السردي يتشكَّل بصُور واقعية، وأُخرى تخييلية تصوُّرية، تجعل القارئ عادةً يبني علاقات دلالية من قلب العلامات في النص، وتَرى المؤَلفة أَن “وجود تلمُّس العلاقات بمعطيات سيميائية ضروريٌّ للقارئ كما بحياة كل إِنسان”.
عودة إلى السيميائية
هو هذا مفهوم علْم الدلالة الذي، بعد توَسُّعه بأَقلام الباحثين المعمِّقين كما إِيليان مهنّا، بات خارطةً هاديةً معظمَ الدراسات، وأَبرزها معارج السيميائية وما فيها من غنًى لإِيضاح النص، كلِّ نصٍّ، نثْريِّهِ والشعريّ.