هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

385. 100 سنة على ولادة السوريالية (3 من 3)

100 سنة على ولادة السوريالية (3 من 3)

09-07-2024 | 17:04 المصدر: بيروت- النهار العربي
هنري زغيب

سلفاور دالي: "الهاتف الكركدنّ" (1938)

سلفاور دالي: “الهاتف الكركدنّ” (1938)
نادرًا ما عرف تاريخ الفنون تيارًا عَبَرَ فوق الأَعوام والعقود حتى بلغ 100 سنة.. السوريالية بلَغَتْها، وكسرَت طوق التقاليد الاتِّباعية التقليدية، وفعلَت فعْلَها العميق، وما زالت ذاتَ أَثر كبير على طريقة التفكير والكتابة والرسم، وتأْثير بّيِّن على نهج لا يزال اليوم ذا أَبجدية معاصرة في قاموس الشعر والرسم.
في الجزء الأَول من هذه الثلاثية عن تاريخ السوريالية لمناسبة مرور 100 سنة على ولادتها، سردتُ ظروف تأْسيسها مع الأَعلام الذين أَطلقوها. في الجزء الثاني عرضتُ اثنين من المؤَسسين الرسامين: ماكس إِرنست ورينه ماغريت.
في هذا الجزء الأَخير أَختم هذه الثلاثية بـأَعلام آخرين وبمصير السوريالية اليوم.
سلفادور دالي
منذ مطالع سلفادور دالي (1904-1989) انطبع عمله بالسوريالية، ليس فقط في لوحاته الغريبة، مثل “الهاتف الكركدنّ” (1938 عن هاتفٍ قبْضَتُهُ قشْرة كركدنّ)، أَو “الساعة الذائبة” (1954)، بل أَيضًا في شكله وهيئته ولباسه وسلوكه المسرحي الكاريكاتوري الطريف. وهو كان، أَكثر من بيكاسو، نموذجَ الرسام الشهير الحديث، ومغالياته في الشهرة سبَّبَت له خصومة مع بروتون، وصعُبَ تفسير الكثير من لوحاته الغريبة التشكيل والتعبير. من هنا قيل إِن دالي كان هو عدُوَّ ذاته الشخصيّ اللَدود. اختلف مع بروتون وسائر السورياليين في كونه مُعجبًا بـهتلر ومدافعًا عن فرنكو خلال الحرب الأَهلية الإِسبانية. وأُخِذَ عليه أَنه ساوم على المستوى، فأَسال أَعماله للتسويق حتى بات هو ذاته شخصية كاريكاتورية موضوع سُخرية.
سلفادور دالي في جلسة سوريالية
 
ميريت أوبنهايم
مع أَنَّ دالي كان الأَقربَ اندماجًا بالحركة السوريالية، ظهرَت ميريت أُوبنهايم (1913-1985) بتوليفة حملت هويتها الفريدة: “فطور بالفراء”(1936) وهي لفنجان قهوة من فراء، وصحنه وملعقة من فراء كذلك. وكانت من البساطة الصعبة بما لا يُصدَّق أَن يتمكَّن نحات من صياغة منحوتة بتلك الدقَّة المذهلة. وأُوبنهايم وُلدت في برلين، وسرعان ما اندلعت شهرتها بفضل توليفتها أَعلاه وبراعتها الفريدة فيها، كأَبرز امرأَة بين نساء الحركة السوريالية. وقصة لوحتها أَنها كانت ذات يومٍ في مقهى مع بيكاسو الذي امتدح في معصمها إِسوارة مزخرفة بفراء. وإِذ لاحظت أَن فنجان قهوتها لم يعد ساخنًا، أَجابت: “كل شيْءٍ تُمكن زخرفته بفراء”، ونادت النادل أَن يسخِّن لها الفنجان من جديد. وفي تلك السنة ذاتها عرضت المنحوتة في معرض “الفن المدهش، الدادئية والسوريالية” (1936) لدى متحف الفن الحديث في نيويورك. وواصلت أُوبنهايم وضع منحوتاتها “المدهشة” لاحقًا طيلة 50 سنة، وعادت فظهرت حديثًا في معرض استعاديّ خاص لدى المتحف ذاته سنة 2022.
 ميريت أُوبنهايم: “فطور بالفراء” (1936) 
ثلاثي سوريالي
سورياليون آخرون وضعوا أَعمالًا لافتة، بينهم ثلاثة: جان آرب (1886-1966)، خوان ميرو (1893-1983)، إيف تانغي (1900-1955)، توزَّعت أَعمالهم بين أَشكال عضوية في نواحٍ عدة بين التعبيريّ والتجريديّ، مطْلقين نوعًا آخَرَ من السوريالية ما زالت أَصداؤُهُ ماثلةً حتى اليوم، هو فن الأَشكال التجريدية الغريبة الذي تطور حتى بلغ النحت الآلي العبثي غير المنطقي، كأَنها طالعة من لاوعي الفنانين. وهو ما حدَّدهُ ميرو بقوله: “حين أَجلس أَمام قماشتي البيضاء، لا أَكون مصممًّا ماذا سأَرسم  ولا كيف، وأُدهَشُ قبل سواي مما يطْلع من لوحتي”.
أُولئك الفنانون الثلاثة استخدموا أَشكالًا كانت معروفة ومجهولة في الوقت ذاته، وهنا التناقُض الكبير الذي يوسّع دائرة التخيُّل والحلم غير الحقيقي. وفيما آرب وميرو سطَّحا أَشكالهما، استخدم تانغي لعبة النور والظل ليعطي عناصر لوحته حجمًا ذا ثلاثة أَبعاد كي يبدو الأَقرب إِلى الطبيعة الحقيقية. وهذه التقْنية بالذات استخدمها ميرو وأَقرَّ لابنة شقيقة تانغي يومًا: “أَنا سرقتُ هذه التقْنية من خالكِ”.
ميريت أُوبنهايم: “ممرِّضتي” (1936)
وهْن السوريالية
خلال الحرب العالمية الأُولى وما تلاها، تكرَّست السوريالية في العشرينات والثلاثينات بمراقبة بروتون الذي كان يقرِّب الفنان الذي يتفق مع رؤْيته ويُقصي مَن لم يكن منها. لكن تأْثيره بدأَ يضعف مع مطالع الأَربعينات، لسببين:
1. الحرب العالمية الثانية غيَّرَت اتجاهات الحركة السوريالية وجعلتْها أَقلَّ اهتمامًا وأَقلَّ إِثارةً لدى المتلقّين.
2. بدأَت السوريالية تنتشر عالميًّا إِذ راح الفنانون يهربون من انتشار النازية في أُوروبا. وهذا الهرب لم يكن له فقط أَن ينشر أَفكار السوريالية أَينما حلُّوا، بل ساهم في تسهيل إِضعافها. من هنا أَن الذين التجأُوا إِلى نيويورك (روبرتو ماتَّا، إِرنست، تانغي، ماسون، وحتى بروتون) أَثَّروا في موجة ما بعد الحرب لدى فناني التعبير التجريدي.
إِقبال الفنانين على السوريالية في نيويورك لم يكن على مستوى ما كان يتوقعه بروتون. وكما حلَّت السويالية مكان الدادائية،  هكذا التعبيرية التجريدية حلَّت مكان السوريالية. وبقيَ لهذه بعض المناصرين في شيكاغو مع جرترود أَبيركْرومبي، وواقعية إيفان أُولبرايت. وفي مصر مع عبدالهادي الجزار.
سلفادور دالي: “الساعة الذائبة” (1954) 
المناحي البديلة تنقذها 
ظلت السوريالية تمتد حتى ستينات القرن الماضي وما بعدها تحصد إِقبالًا شعبيًّا. فالتعبيرية في القرن الحادي والعشرين انطلقت من بعض مبادئ السوريالية. ولا يزال صداها في وسائط التواصل الإِلكتروني وتقْنيات الذكاء الاصطناعي التي معها يسهل التفريق بين الحياة الحقيقية والحياة الإِنترنتية في المزاج “فوق الواقعي” (إِذًا “السوريالي”)، أَكثر مما كان السورياليون المؤَسسون يحلمون أَو يتخيَّلون أَن يبلغ تيارهم حتى اليوم.
وتأْكيدًا هذا الامتداد، يحتفل متحف سلفادور دالي في سانت بيترسبورغ (فلوريدا) بمئوية السوريالية (1924-2024) بمؤْتمر واسع في تشرين الأَول/أُكتوبر المقبل، مستضيفًا أَعلام هذا التيار من نقاد وعارفين وفنانين ومدراء متاحف وأَكاديميين يبحثون في السوريالية منذ ولادتها قبل 100 سنة حتى اليوم.