25 كانون الأول 2007 العدد 12415 السنة 36
أعود من الولايات المتحدة، كما كل مرة أعود منها، بانطباعاتٍ ومُشاهداتٍ ما إن أُقارنها مع واقعنا في المحيط العربي حتى أشعر كم يلزمنا بعدُ كشعوبٍ (لا كحُكام مقطوع منهم الأمل أصلاً) حتى تنهض دولنا الى مصاف الثقافة العالية والفن العالي والإبداع الطالع من العلْم والجدية والمثابرة والجهد المضني والتواضع والدّعة والانصراف الى الشأن الإبداعي في مهنية واحترافية، وفي مسيرة حياتية لا تعرف “الخوشبوشية” و”المعليشية”، ولا لعب طاولة الزهر (النرد) في المقاهي وعلى الأرصفة، ولا طقطقة السبحات بين أصابع يعاني أصحابُها من لوثة الكسل وجرثومة الضجر العربي والجهل المتفشي في الطبقة الشعبية المرعبةِ الجهلِ والأُمِّيَّة.
أعود من الولايات المتحدة وفي بالي مشهدٌ لا أنفكّ يَجذبني ويُذهلني كلما عدتُ من هناك: هو مشهد القرَّاء في كل مكان.
ما أعجب (وأرقى) ما يراه السائحُ أو زائرُ تلك البلاد (وسواها طبعاً من البلدان الراقية): الناس يقرأُون. لا ينفكّون يقرأُون. في الطائرة يقرأُون. في المطار يقرأُون. في محطات القطار يقرأُون. في الباص، وقوفاً أو جلوساً، يقرأُون. في الصف الطويل، وهُم ينظرون، يقرأُون. في المطاعم يقرأُون. في كل مكانٍ يكونون فيه، جالسين أو منتظرين، يقرأُون. لا يَمَلُّون من القراءة. وغالباً ما تكون في أيديهم كتبٌ سميكة دسمة تغرق إليها عيونهم في عمق وتركيز، فيمرُّ الوقت من حَدِّهم ولا يزعجهم، ويملأُون هم الوقت بالمعرفة التي حدود لها، والتلقي الذي لا أفق له، والثقافة التي لا تعرف نهاية مدى.
يقرأُون. يقرأُون. يقرأُون. ولعلّ هذا ما يفسّر صدور الطبعة تلو الطبعة للكتب هناك (والطبعة من آلاف النسخ)، وما يفسِّر تفرُّغ المؤلّفين هناك للكتابة والتأليف، لأن حصتهم من حقوق النشر ترفدهم بمردود من مؤلفاتهم يجعلهم قادرين على التفرغ ولا يضطرون الى العمل للاعتياش من وظيفة أو مهنة تدرّ عليهم مدخولاً آمناً.
ولعلّ هذا ما يجعل معارض الكتب هناك غير منتشرة بالكثرة (الفولكلورية أحياناً!!!) المعروفة بها أسواق الكتب العربية حين يستقطب المعنيّون القراء الى معارض الكتب بإغراءات وحسومات وأنشطة مصاحبة، لكي يجتذبوا الى المعرض روّاداً يشترون، ونادراً ما يجتذبون، لأن العربي أجمالاً، بطبيعة حياته اليومية، ليس مستهلكاً يقبل على الكتاب تلقائياً، بل يأتي مدفوعاً الى اقتنائه في حفلة توقيع (يأتي إليها لعلاقته الشخصية مع المؤلف أو الناشر)، أو أمسية شعرية يسوّق الشاعر في نهايتها كتابه الجديد. عدا ذلك (عدا معارض الكتاب وحفلات التوقيع) قلّما نرى كتاباً يقبل عليه القراء تلقائياً إلاّ كتب الطبخ والأبراج وكتب سياسية تعالج أزمة راهنة أو تُحاور سياسيين “نُجوماً” في زمنهم ثم تَخبو “نُجوميَّتُهم” لأن السياسة كالزبد زائلة عابرة في زمن عابر.
يقرأُون، هناك (في الغرب). يقرأُون. إنهم شعبٌ يقرأ. شعب يستهلك الكتاب، ويبني في بيوته مكتبات تنمو وتَغْنى وتزدهر.
فما أتعس ما نحن عليه في هذا المحيط العربي الجاهل التاعس الأمي!
نحن شعب لا يقرأ. والشعب الذي لا يقرأ: قطيع وراء سياسيين. نحن شعب يُمضي معظم وقته في المقاهي يشرب الأركيلة (“الشيشة”)، ويدخّن السجائر القاتلة، ويلعب طاولة الزهر (النرد)، ويحتسي فناجين القهوة في إدمان فاجع، ثم يَمضي في آخر النهار الى مواهبه في تنمية النسل لتأمين استمراريته في جيل عربي جديد يستهلك لاحقاً لا الكتاب بل الأركيلة وسبحة الطقطقة والتدخين وتكثير النسل العربي، وتنمية لوائح الأغنام في قطعان السياسيين.