نابوليون وجوزفين: الحب العاصف المغمَّس بالقهر (3 من 3)
قصر مالْميزون: رمّمته جوزفين وسَكَنَتْهُ
في صفحات التاريخ الفرنسي قصص كثيرة عن نابوليون بونابارت وحبيبته (ثم زوجته) جوزفين بوهارنيه، تراوحت فصولها بين الحب المجنون من الطرَفين( وإِن يكن من جهته هو أَكثر مما لديها هي)، والغضب الجنون (بسبب ما كان يتواتر إِلى كليهما من أَخبار خيانات يرتكبانها نزوة أَو شهوةً أَو انتقامًا).
في هذه الثلاثية نبذة عن تلك القصص وأَمواجها المتلاطمة بن السكينة والأَنواء.
هنا الجزء الثالث الأَخير:
هكذا جذبتْهُ إِليها
كان نابوليون التقى جوزفين ذات عشاء عند نهاية 1795. وفيما كان هو غيرَ واثق من عواطفه تجاهها، كانت هي ذات تجربة عاطفية ناجزة وذات حياة اجتماعية غنية وعلاقات وثيقة بالطبقة الأَرستقراطية الباريسية جعلَتْها محاطةً بتعابير ثناء جعلتْه يعمل على التقرُّب منها.
في بداية علاقاتهما لم تكن جوزفين متحمسة للزواج من نابوليون، لكن انتصاراته العسكرية أَخذَت تُغيِّر رأْيها وميولها واعتراضها على الزواج منه. فهو كان يمثل لها الأَمان المالي والاستقرار، خصوصًا بعد فترة سجنها القاسية. وما لبث أَن حَذف اسمها الأَصلي (“روز”) وبات يناديها “جوزفين”.
برودة أَجوبتها في الرسائل
بعد يومين من زواجهما المدني (في آذار/مارس 1796) انطلق نابوليون إِلى إِيطاليا على رأْس الجيش الفرنسي، في حملة مصيرية كان لها أَن تُغيِّر في المشهد السياسي الأُوروبي، وأَن تُعلن شهرته كقائد تاريخي. وكانت تلك الحملة أُولى غياباته العسكرية وابتعاده المتكرر عن زوجته.
في رسائلهما العاطفية يبدو واضحًا تعلُّقُه بها. كان أَحيانًا، بالرغم من انشغالاته العسكرية، يكتب لها أَكثر من رسالة في اليوم الواحد، وفي معظمها ترَنُّحٌ في التعبير بين الشوق والرغبة والامتلاك واللوم والتُهم. وعن زامُويْسْكي أَنَّ في رسائل نابوليون من إِيطاليا مراهَقَةً متطرفة كانت تقابلها جوزفين ببرودة وحيادية.
نابوليون يتوِّج جوزفين: مشهد سينمائي حديث
راعية الفُنون في عصرها
يبقى من جوزفين حبُّها الفنونَ واقتناءَها الأَعمال الفنية. وهي طوَّرت ذوقها منذ البداية لتبلغ أَن تكون سيدة مجتمع مثقَّفة يليق بها لقب الأَمبراطورة، لِما عُرِفَت به من ذوق وأَناقة، حتى أَنها كانت ذات تأْثير مباشر على تغيير المشهد الثقافي في عصرها. وتأْثيرُها في الفن والثقافة تخطَّى كونها أَمبراطورة لتكون راعيةً حركةً فنيةً امتدَّت حتى الأَزياء وبعض الأَناقة الخارجية لدى النساء.
وهي أَطلقَت لِذاتها حياة التحرر. فبعد عام من وفاة زوجها، التقَت نابوليون سنة 1795 وعلِقَتْهُ سريعًا مع أَنه يصغرها بست سنوات. رافقَتْه وهو يتدرج تَرَقِّيًا في مراتبه العسكرية. وما تم زواجهما في 9 آذار/مارس 1796 حتى انطلق نابوليون بعد يومين إِلى حملته الإِيطالية، وبعدها راحت حملاته العسكرية تُرغمه على التغيُّب تكرارًا عن جوزفين.
قصر مالْميزون
كان بونابارت في مصر سنة 1799 حين اشترَت جوزفين قصر مالْميزون الذي كان وضعُه تاعسًا ويحتاج إِلى ترميم، ما كلَّفها ثروة كبرى ليخرج كما أَرادتْه: جوهرة جمالية بهندسته الداخلية، وبمحيطه الجنائني الذي كلَّفت له لجنة جنائنيين خبراء إِنكليز. فهي كانت تحب الطبيعة والنباتات العطرة والأَزهار من كل نوع. وما انتهى الترميم حتى عَمُرَ القصر باللوحات الفنية، والحدائق، والطيور، والحيوانات الأَليفة من كل نوع ومن معظم دول العالم.
تشجيع الفنانين
راحت جوزفين، واستمرَّت طوال حياتها، ترعى الحركة الفنية والفنانين والمهندسين، فأَحدثَت طابعًا فنيًا رائعًا في العصر النابوليوني، تأَثُّرًا بالفن اليوناني والفن الروماني. كما شجَّعت مصمِّمي الأَزياء والرسامين الكلاسيكيين والنيوكلاسيكيين، كما دعمَت الحرفيين لزيادة الإِنتاج بشراء أَعمالهم الحرفية من كل نوع. وكلَّفَت رسامين وضْع صورٍ لها (لوحات بورتريه) وزَّعتها على قصورها الأُخرى. واقتنَت مجموعة كبرى من اللوحات والمنحوتات والأَعمال الفنية الأُخرى ما جعلَها راعية الفُنون في عصرها.
من هنا أَن الرسامين راحُوا يتفنَّنون في رسم وجهها وملابسها الأَنيقة الفريدة، مستفيدين من الأَجواء الثقافية والجمالية التي خلقَتْها.
احتفال زواج نابوليون وجوزيفين
إِلغاء الزواج
كانت حملات نابوليون تُبعدُهُ تكرارًا عن جوزفين، ما خلق الشعور بالانفراد والوحدة والانزعاج لدى الطرفين. وزاد من التأَزُّم صدورُ الشائعات عن الخيانات لديهما كذلك، ما بدأَ يشكّل تصدُّعًا في علاقتهما أَدى إِلى إِلغاء زواجهما سنة 1809 وسبَّب لهما معًا حزنًا عميقًا لأَنه حصل لسبب وراثي ذي علاقة بوراثة حكْم فرنسا. لكن بونابارت أبقى لها قصر مالْميزون وقصر الإيليزيه وقصر نافار.
جوزفين على مدالية ثمينة نادرة
بَصْمتُها في العصر
بعد سنوات، انسحبت جوزفين إِلى قصر مالْميزون، وأَمضَت وقتها مع أَحفادها. وبعد سقوط نابوليون سنة 1814، عقدَت علاقة مع القيصر أَلكسندر الأَول حتى وفاتها في 29 أَيار/مايو 1814، تاركة بصمةً دامغة كراعية للفنون إِبّان العصر النابوليوني، في الفنون المشهدية والحركة الثقافية التي حوَّلَتْها إِفادة لها في الحقل الدبلوماسي. وعملَت على تمتين الروابط الثقافية بين فرنسا ودول أُخرى، بتبادُل هدايا فنية وإِرسال فنانين فرنسيين إِلى تلك الدول، ما ساهم بتنامي الفن الفرنسي في كل أُوروبا.