سابين كرم تَنْحت لغة العصافير
سابين كرم ومنحوتَتُها تكريمًا للنحات الفرنسي هونوريه دومييه
حين تخرَّجَتْ من مدرسة الراهبات كانت هوايتها تصميم الأَزياء. سوى أَن اختصاصها الجامعي في البيولوجيا (“ماجستر” من الجامعة اللبنانية) أَخذَها لفترةٍ من دون أَن يَشغلها عن هوايتها.
وحين انصرفت إِلى تلك الهواية، لم تكن تَحْدُسُ أَنها ستغيِّر وُجْهتَها صوب الرسم لمهارات الزيتيات والمائيات. ومن الرسم تغَيَّرتْ وجْهتُها مجدَّدًا صوب النحت، فانصرفَت إِليه نهائيًا: وجدَتْ حلْمها يتحقَّق بين أَصابعها وطراوة الطين الذي تجبُلُهُ فيأْخذها إِلى الخزَف وإِطْلاع الأَشكال ذات الثلاثة الأَبعاد.
تلك حكاية سابين صليبا كرم مع الشكل الناطق في كل ما تُطْلِع.
من الرسم إِلى شغف النحت
كان انتقالها إِلى نيويورك مدخلًا لالتحاقها بمعهدها العريق “رابطة طُلَّاب الفن” (تأَسس في منهاتن سنة 1875)، درست فيه الرسم طريقًا إِلى احترافه. سوى أَنها، وهي تتابع دروس الريشة واللون، كان تراقب زملاءَها في المعهد يزاولون العمل في الطين ويُطْلعون منه أَشكالًا جميلة.
استهواها هذا الأَمر. وحين انتقلَت من منهاتن إِلى عاصمة الولاية (أَلْباني)، قرَّرت الانصرف إِلى فن النحت تصقله بين الدروس النظرية وأَصابعها التطبيقية. لذا انتسبَت إِلى “مركز الفنون في منطقة العاصمة” (مدينة تْرُوْيْ – على بُعد أَميال قليلة شرقيَّ مدينة أَلْبَاني)، وهو مركز مختصٌّ بتدريب الطلاب على الخلْق والإِبداع. وهكذا كان: أَحست أَن طريقها هو النحت، فتعمَّقَت لديه خبرةً ومحاولاتٍ في فن الخزف (السيراميك) طيلة ست سنوات (2006-2012).
تَخَطِّي الطين إِلى البرونز
سنة 2012 عادت إِلى لبنان بعد 15 سنة من الغُربة الأَميركية، وانصَرَفت نهائيًّا إِلى الإِنتاج انطلاقًا من بيتها الأُسري حيث هيَّأَ لها زوجها الطبيب البروفسور مارون كرم جميع الأَجواء التي تتيح لها تحقيق ما كانت تحلم به قبل فترة طويلة. لكنَّ قَوْلبتها الأَشكال بالطين فقط لا تكفي، لحاجتها إِلى فرن خاص يحوِّل الطين إِلى فخار، والفخار إِلى روائع الخزف. فالسيراميك فنٌّ قائمٌ على صعوبة تعبير تتخطَّاها عينٌ رؤْيويةٌ ترى الشكل قبل أَن يُولَد.
لأَجل ذلك، تحوَّل جزءٌ من أَعمالها إِلى البرونز، راحت تُنتج منه منمنمات جميلة إِلى متوسطة الحجم. وحين باتت لديها مجموعةٌ جاهزة، عَرَضتْها سنة 2013 لدى متحف “مَقام” (MACAM) الذي أَسَّسه الناقد ومؤَرخ الفن سيزار نمور (1937-2021)، فنالت سابين الجائزة الأُولى سنة 2014، وفي معرض 2017 نالت الجائزة الثانية من المتحف ذاته، مع تنويه اللجنة التحكيمية بشاعرية أَعمالها ودقَّة تفاصيلها.
ُدخولُ اللون يعطي البُعْد الآخَر
دخول اللون والهوية الأُخرى
بعدذاك راحت تطوِّر عملها فانتقلَت من الخزَف الإِحادي اللون الأَصليّ إِلى الخزَف الملوَّن، معتبرةً أَن اللون يُنَصِّع المنحوتة ويعطيها أَلَقًا آخَر. ومع الخزَف أَنشأَت أَعمالًا لها أُخرى بالريزين وبودرة الرخام، ما جعل مساحة تنفيذها أَوسع تنفُّسًا للتعبير عن مخططها الجمالي.
هكذا راحت المنحوتات تتعدَّد بين أَصابعها الأَشكال، من لغة الطيور إِلى تعابير مفْرغاتٍ ليس في فراغها خواء بل امتلاء أَفكار وتفسير وتعبير، تترك للمتلقي أَن يتخيَّل ويفسِّر. فالفن سؤَال وليس جوابًا، وإِن بات جوابًا بطُلَ فيه الإِبداع.
من هنا تعمَّقت خبرتها في السيطرة على قولبة الطين، فبات يتجاوب بين أَصابعها وفق الانحناءات والزوايا كما تريدها تكون، واعية أَنَّ الطين بين كَفَّي الخزَّاف يعطي حس الحرية لخلق أَشكال تجريبية لا حدود لأُطرها وانفلاتها في الخيال الرائي. لذا تشعر أَنها لا تتعب أَبدًا من إِيجاد الشكل الجديد، في لانهائيَّة الإِمكانات التي تطيعها بسهولة فتستولد من الطين أَشكالًا تتنافس جمالًا وإِيحاءاتٍ تغذِّي الخيال.
من الأَصابع تُولَدُ أَشكال الحياة
ولأَن كلَّ عملها يدويٌّ لا تحتاج معه إِلى آلات أَو أَدوات، تحرص على أَلَّا تتقولب منحوتاتها في تناسق هندسي مأْلوف، بل تشاؤُها حرَّةً من القياسات التقليدية الكلاسيكية فتستولدها أَشكالًا غيرَ نظامية، غيرَ متناسقة، غيرَ متماثلة، ما يعطي عملها، وكلَّ عمل جديد لها، هُويةً أُخرى ولغةً أُخرى وبُعدًا آخَر.
من هنا فرادة أَعمالٍ جديدة لها تهيِّئُها حاليًا لإِطْلاع مجموعة منها تنتظرها صالاتٌ كبرى في لبنان والخارج.
سابين كرم، في سجلِّ النحت، موهبةٌ لبنانيةٌ وُثقى، تعرف كيف تنفخُ في الطين الجامد فتُطْلِعُ منه أَشكال حياة.
- المرأَةُ ذاتُ الوشاح