18 كانون الأول 2007 العدد 12410 السنة 36
عن وكالة الصحافة الفرنسية (الأسبوع الماضي) أنّ دار “سوثبيز” للمزادات العلنية (نيويورك) باعت لوحة “الصباح” (امرأة تغتسل في ظلال أشجار المانغو) لغوغان (1848-1903) بمبلغ 39،2 مليون دولار، وباعت بمبلغ 25 مليون دولار لوحة “حقول القمح” لفان غوخ (1853-1890) وهي آخر لوحة له، رَسَمها قبل أسبوعين من انتحاره (27/7/1890). ويتوقّع مدير سوثبيز أن تبلغ في العام المقبل 35 مليون دولار.
غريب هذا العالم التشكيلي! هاتان لوحتهما تتجانبان اليوم وتُباعان بسعر خيالي (ربما كان على صاحبيهما أن يُمضيا عشرين حياةً متعاقبة كي يَجمعا – إذا جمعا – هذا المبلغ)، بينما هما اليوم في الغياب (ما أروع الأثر الفني الدائم الحضور!!!)، بعدما كانت لهما حياة حافلة بصداقة انتهت الى خصومة غريبة حادة. فما هي قصتُهما الغريبة؟
في سنة 1886 انتقل فنسنت فان غوخ (من هولندا، بلاده) الى باريس وتعرّف الى تولوز لوتريك وسيزان وسواهما من جماعة مونمارتر. وسنة 1887 تعرّف الى غوغان (الواصل حديثاً الى باريس) وأخذا يعملان معاً في محترف واحد. وحين انتقل فان غوخ الى قرية آرل (21/2/1888) راح يلحّ على صديقه غوغان أن يوافيه إليها، ففعل هذا الأخير والتحق بفان غوخ (في 23/10/1888) وراحا يرسمان معاً في البيت وفي أحضان الطبيعة. لكن فان غوخ (المريض نفسياً) خشي أن يسبقه غوغان شهرةً وإنتاجاً فتخاصم معه (3/12/1888) وقاطعه، وبلغت حدة الخصومة بينهما أن التقاه فان غوخ (نهار 23/12/1888) فعالجه بموسى حادة بترت قطعة من ربلة أُذُن غوغان الذي غادر آرل وما عاد التقى فان غوخ نهائياً.
رجع غوغان الى باريس وانتقل منها الى تاهيتي فوضع لوحات كثيرة (بينها سنة 1892 لوحة “الصباح”، موضوع مزاد سوثبي الأخير)، بينما انقطع فان غوخ بعدها الى المستشفيات والمصحات العقلية والجسدية يتعالج ثم يتعافى فيرسم قليلاً، الى أن بلغ به الجنون والفقر درجة قاسية، فرسم بعض اللوحات في قرية آرل (بينها لوحة “حقول القمح” موضوع مزاد سوثبي الأخير). وبعد أُسبوعين خرج الى حقل القمح نفسه الذي رسمه في لوحته الأخيرة (27/7/1890)، وأطلق النار على وسط صدره، فسقط ميتاً في ذلك الحقل يتخبط بدمائه حتى لفظ نفَسَه الأخير، وانطلقت اللوحة حتى اليوم تَحبس أنفاس الناظرين إليها.
غريبةٌ قصة هذين الكبيرين: تصادقا وتَخاصما وافترقا، فمات فان غوخ عن 37 عاماً فقيراً مهلْوساً معدماً منتحراً في قرية آرل النائية، ومات غوغان بالسفلس عن 55 عاماً فقيراً منسياً في جزيرة ماركيزاس النائية (جنوبي الباسفيك)، بينما لوحتان لهما اليوم، بعد أكثر من مئة عام على غيابهما، تَجانبتا في نيويورك، لتكونا من أغلى اللوحات الفنية ثمناً في العالَم.
هكذا الفن الخالد، يموت صاحبه ولا يدري أين سيؤدي القدر بأثره الفني.
يوم مات جبران خليل جبران (الجمعة 10/4/1931) في مستشفى سانت فنسنت (نيويورك) كان حوله بضعة أصدقاء، ولم يكن يدري أن قدر أعماله سيؤدّي بها الى أن يجعله حتى اليوم حياً في ملايين الملايين من الناس ويملأ اسمه العالم. وهكذا عظماء آخرون ماتوا وحيدين أو معزولين أو مرضى أو مُحبطين، وأعمالهم اليوم إشعاعات تزيد البشر نُوراً والعالم حضارةً وإبداعاً.
إنه قدر المبدعين: يعيشون في كآبة ليُعطوا العالم الفرح، ويموتون في الوحدة فتغيب شمسهم عن الحياة، ليعطوا العالم حضوراً لا تغيب شمسه ولا تطفئها الحياة.