جبران العبقريّ… تاجر فاشل (2 من 2)
وُصُول جثمان جبران من نيويورك إِلى محطة القطار الجنوبية في بوسطن
في الجزء الأَول من هذا المقال سردتُ كيف المحامي الأَميركي من أَصل لبناني تشارلز معلوف سماحة Attorney Charles Samaha نشَر في كتابه بالإِنكليزية Faris Saleem Malouf: A Voice In The Dark تفاصيل جديدة عن تلك الصفقة التجارية العقارية الفاشلة التي خاضها نسيبُهُ فارس معلوف مع صديقه جبران خليل جبران، ووقَعَا في خسارة مالية كبيرة جعلت جبران يبقى أَشهرًا مريرةً بعيدًا عن قلمه وريشته لشدَّة وقْع هذه الكارثة عليه، قبل أَن يعود من جديد إِلى الكتابة والرسم.
في هذا الجزء الثاني تفاصيل أُخرى وكيف انتهت تلك المغامرة “الفاشلة”.
المنْقذة ماري هاسكل
لدى استلام ماري هاسكل رسائل جبران من واطِّلاعها على وضعه المالي بسبب العملية التجارية، سارعت إِلى إدانته مبلغ 6،000 دولار ساعدَه، مع قبض قسم من الإِيجارات، في تسديد بعض المتأَخرات عليه وعلى شريكه. واقترحَت ماري على جبران أَن يقايض بعض المدفوعات ببعض لوحاته. وبادر فارس من جهته إِلى الاستدانة من بعض أَصدقائه لسداد حصته من المدفوعات.
في 4 كانون الأَول/ديسمبر عاد جبران يشعر بارتياح وتفاؤُل، فكتب إِلى ماري: “أَبلَغَني شريكي فارس في رسالةٍ أَن الوضع حتى اليوم مريح ولا خشية من مفاجآت سيئة. فهو استدان من أَقارب له وأَصدقاء، ويلتقي السيدتَين كويمبي وفاولر وهما لطيفتان وستكونان قادرتَيْن على إِنجاح استثمارهما البنايَتَيْن. أَشعر بالراحة إِلى دخْلي من الإِيجار وبأَنني قمتُ بعمل يريحني ماليًّا. أُؤْمن بأَنَّ ما أُخطِّط له سيلقى النجاح، وبأَنَّ أَخطائي تساعدني على تعميق إِيماني بالنجاح”.
محفوظات يُمنى نعّاف لدى سميثسونيان، وفيها صُوَر المغامرة “الفاشلة”
بوسطن للراحة و… الكارثة
في 24 كانون الأَول/ ديسمبر كتب لها: “جئتُ إِلى بوسطن لتمضية الميلاد مع شقيقتي مريانا، فوجدتُ أَنَّ أَمر صفقتنا التجارية سائر بنجاح. صحيح أَنَّ السيدتَين بطيئتان في الدفع، لكنني مع قليل من الصبر سأَبدأُ بقطاف ثمار استثماري”.
بعد أَيام قليلة، في مطلع 1925، بدأَ الأَمر يسوءُ إِذ بدأَت السيدتان تتأَخران أَكثر فأَكثر عن تسديد الإِيجار وتعطيان أَعذارًا متعددة. ثم بَلَغَتَا أَنْ بَلَّغَتَا جبران وفارس أَسفَهما الشديد على أَنهما فشلتا في استقطاب عدد كافٍ من المنتسبات يدفعن اشتراكاتهنَّ في النادي فتغطينَ المصاريف، وتاليًا قررتا وقْف الدفع وإِعادة البنايتَين إِلى صاحبيهما.
وإِذ تبلَّغ جبران وفارس هذا الأَمر الصاعق، فشِلا هما أَيضًا في إِيجاد مستأْجرين جُدُد، وكانا دفعا كلَّ ما لديهما لتسديد المصاريف المتوجبة عليهما، فوقَعت عليهما الكارثة المالية.
مؤْتمر جبران الثالث لدى الجامعة اللبنانية الأَميركية، وفيه ذكْر لتلك المغامرة
نتيجة المغامرة “الفاشلة”
لم يتنفَّسا ارتياحًا، ولو جزئيًّا، إِلَّا في آذار/مارس حين تَقدَّم رجل الأَعمال البوسطنيّ جورج بوردمان واشترى منهما البنايَتَيْن، ما أَتاح لهما دفع الرهْن الأَول لـ”مؤَسسة التوفير” في روكسبُري (بوسطن)، والثاني لـ”شركة جنوبي بوسطن العقارية” التي وقتئذٍ كان اشتراها “البنك الفدرالي الوطني”. وبعد كلِّ ما كان جبران وفارس دفعَاهُ، لم يبقَ لهما من الشاري جورج بوردمان سوى 3000 دولار لكلٍّ منهما حين أَتَـمَّ محاميهما الياس شمعون معاملات البيع.
بعد إِتمام جميع تلك المعاملات، وانهيار جبران نفسيًّا، كتبَت ماري هاسكل إِلى جبران تُقَوِّي عزيمته: “لا تسَلْني يا عزيزي أَن أُسامحَكَ على ما فعلْتَ. وحده الإِنسان الكامل لا يخطئ. مشروعُكَ الذي قُمتَ به كان يحتمل النجاح بقدْرما كان يحتمل الفشل. وبما أَنه الآن فشِلَ فلا تكتَئِبْ لأَنك ستعبر الأَزمة بسرعة”.
كما روى ميخائيل نعيمه
في كتاب ميخائيل نعيمه عن جبران روى أَن جبران، بُعَيْد تلك الكارثة التي أَصابتْه، قال له: “لم يحدث لي في حياتي يا ميشا أَن عشْت شهرًا قاهرًا بصعوباته وتعقيداته ومشاكله كما عشْت الشهر الماضي. كنتُ مرارًا أُسائلُني إِن لم يكن فيَّ شيطان يتمتَّع بقهري وإِطلاق الحرب عليَّ أَو بصَفْق الباب في وجهي ووضْع العراقيل في طريقي. منذ وصولي إِلى هذه المدينة اللعينة وأَنا أَعيش في جحيم من المشاكل. ولولا شقيقتي فيها لكنتُ تركتُ كل شيء وعُدْتُ إِلى صومعتي في نيويورك، نافضًا غبار العالم كلَّه عن قَدَمَيّ”.
وفي مقطع لاحق من ذاك الفصل في الكتاب، يروي نعيمه أَن جبران أَمضى بضع سنوات بعدها يرزح ماليًّا تحت هول تلك الكارثة التي وقعَت له. وكذلك كان الأَمر بالنسبة لفارس معلوف.
فارس معلوف في وداعه واستذكاره
بعد ثلاثة أَيام من وفاة جبران ليلة الجمعة في 10 نيسان/أَبريل 1931، وصل جثمانه بالقطار بعد ظهر الإِثنين من نيويورك إِلى محطة القطار الجنوبية في بوسطن، وأُودِعَ في صالة “جمعية سيِّدات المعونة السوريات” (شارع نيوتن الغربي) فتوافد المئات لإِلقاء النظرة الأَخيرة على جثمانه المسجَّى في نعشه المفتوح.
صباح الثلثاء تم نقْل النعش ملفوفًا بالعلم اللبناني إِلى شارع تايلور حيث كنيسة “سيدة الأَرز” (أَقدم كنيسة في بوسطن، تأَسست سنة 1899)، وقام خادم رعيتها الخورأُسقف أُسطفان الدويهي (1882-1959) بمراسم الجناز. وتوافدت حشود لم تتَّسع لها الكنيسة فبقي كثيرون في الخارج، بينهم فارس معلوف الذي راح يستذكر ما لاقاه سنتَي 1924 و1925 من صعوبات هو وشريكُه جبران. وكان في الكنيسة يصغي واجمًا إِلى صديقةٍ له ولجبران نجيبة مراد ترتِّل الأَناشيد الجنائزية الحزينة.
بعدها بثلاثة أَسابيع كان فارس معلوف حاضرًا أَيضًا احتفالًا عن جبران عند الثامنة مساءَ الأَحد 24 أَيار/مايو 1931 في مبنى جون وليامز البلدي، حيث احتشد مئات آخرون يستمعون إِلى كلمات التأْبين من الخورأُسقف الدويهي ووديع شاكر ولبيبة حنا والياس شمعون.
جبران الناجح كتابةً ورسْمًا والفاشل تجارةً
مُنقذَتُهُ ومُنقذَةُ لوحاته
هكذا مرَّ جبران في أَزمةٍ مالية عصفت بكيانه، هو غيرُ الـمهيَّإِ لكل تلك الأُمور المالية والتجارية، فأَحس بأَلم نفسيٍّ عميق ظل يلاحقه أَشهرًا ويجمِّد قلمه وريشته، حتى كانت ماري هاسكل له العون، فأَنقذَتْه من ورطته بمبلغ قالت له إِنه دَيْن يفيها إِياه لاحقًا. لكنها، وهي راعيتُه النبيلة، لم تستردَّ ذاك الدَيْن نقْدًا بل سأَلتْه الاستعاضة ببضع لوحات منه لمجموعتها الخاصة التي احتفظت بها كنزًا لا يضاهى، حتى إِذا شعرَت بوهْن في ذاكرتها وصحتها، قدّمَت اللوحات هديةً لـ”متحف تلفير” في مدينة سُكناها سافانا (جورجيا). ولا تزال اللوحات حتى اليوم في متحف “أَكاديميا تلفير” تحتفظ بها كأَغلى ما لديها بين مجموعات كبار الرسامين.