شخصيَّةُ أَمين الريحاني من خلال خطه
ماري هاسكل بين تلامذة مدرستها (1903)
مع مئَوية كتاب “مُلوك العرب” (1924-2024) لأَمين الريحاني (1876-1940)، يتنامى الاهتمامُ بالـ”أَمين” وعبقريته الفذَّة في جوانبَ عدةٍ من سيرته ومسيرته.
من هذه الجوانب (ولعلَّه أَطرفُها): تبْيانُ شخصيته الفريدة من خلال خطه، كما كتبَت عنها ماري هاسكل (1873-1964) صديقةُ جبران وراعيتُه. وهي “الكشف” الجديد الذي اضطلَع به الباحث الجبراني الإِيطالي البارز فرنشسكو ميديتْشي Francesco Medici، ونَشَرَه غْلِنْ كالِم Glen Kalem وقدَّمَ له على موقعه The Kahlil Gibran collective، وساهم في بلورته من الإِنكليزية إلى الفرنسية الباحثُ الجبراني البلجيكي فيليب ماريسيل Philippe Marysael وهو مترجم جبران كاملًا من الإِنكليزية إِلى الفرنسية.
فماذا عن هذا الكشف؟
الريحاني لا جبران؟
المفارقة أَن هذا النص كتَبَتْه ماري هاسكل عن الريحاني لا عن جبران. والأَرجح أَنها لا بد وضعَت نصًّا عن خط جبران (هي الخبيرةُ جدًّا به، وراجعَت جميع مخطوطاته بالإِنكليزية قبل إِرسالها إلى الطبع). سوى أَن هذا النص، إِنْ هو فعلًا موجود، مفقودٌ حتى من محفوظات ماري هاسكل الكاملة لدى جامعة نورث كارولاينا في مدينة تْشَاپل هِلّ، حيث رسائلُهُما ودفاترُ يومياتها.
ماري وقراءة الخطوط
في التحديد العلْمي أَنَّ للخطوط علْمًا خاصًّا مستقلًّا بذاته، يحلِّل شخصية الكاتب من خلال طريقة الكتابة وتشكيل الحروف والكلمات على الصفحة البيضاء، وتدلُّ على حالة الكاتب النفسية عند كتابته النص.
ليس معروفًا متى، أَو في أَيِّ فترة، اهتمت ماري هاسكل بشأْن الخطوط وتبْيان شخصية كاتبها. كلُّ ما ظهر حتى الآن: مقالٌ لها نشرَتْه بالفرنسية المجلةُ اللبنانية الفرنكوفونية العريقة La Revue du Liban في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1944 (قبل 20 سنة من وفاتها) وقام بترجمته عن الإِنكليزية فؤَاد صادر.
إِذًا ها هي ماري هاسكل تتناول خط الريحاني صديق جبران، هي العارفة بعمق صداقتهما، والعارفة أَن جبران، حين انتقل إِلى نيويورك بناءً على تشجيعها وقبل أَن يجد له مسكنًا، سكَن فترةً في شقة صديقه الريحاني.
ماري المعجَبَة بالريحاني
من خلال هذا النص، تبدو ماري هاسكل مُعجَبَة بشخصية الريحاني وتقدِّره عاليًا، وترى أَنَّ له “قوةً روحية عظمى”…، و”مزايا فريدة في قلبه وفكره وروحه”. وتجد أَنَّ “روحه عانت من مصاعبَ قاسية في حياته، لكنه نجح في التغلُّب عليها”. وذكرَت أَنَّ “الريحاني كان يقدِّر الصداقة، وأَحيانًا يضحي لأَجلها ببعض قناعاته. وهذا ما يظهر لديه في صراع مع ذاته في بعض مواقفه المترددة”. ومن هنا استنتاجها: “يشبه الريحاني رجلًا مطمورًا تحت أَطنان من الصخور، لكنه باقٍ حيًّا بعنادٍ قويٍّ، حتى أَنه بالرغم من عجزه عن رفْع تلك الصخور عنه، تمكَّن من إِيجاد طريقة عبقرية لِـمدّ يده أَو ذراعه أَو قدمه، أَو حتى رأْسه، كي يستطيع أَن يتنفَّس. من هنا أَنَّ شخصيته، وهي بعكس قدره، تبدو كجذْر ضعيف في ظلمة التراب نما على صخر، وخرج من شقوق الصخر إِلى النور”.
الريحاني رجل فريد
في مقدمة النص، كتب المترجم فؤاد صادر مقدمة جاء فيها: “ماري هاسكل كانت مديرة “مدرسة هاسكل للبنات” في بوسطن. وهي امرأَةٌ عالية الثقافة، اشتهرت بصراحتها وذكائها. وهي تابعت دروسًا في علْم الخطوط، بدليل هذا المقال تَدرس فيه من خلال الخط الكاتب والمفكر الشهير أَمين الريحاني”. وهنا أَبرز ما جاء في المقال الذي خفيَت منه كلمات بسبب التلَف في بعض المقاطع والكلمات من صفحة تلك المجلة الفرنكوفونية.
“أمين الريحاني رجل فريد، ذو قوة روحية عظمى، على حزْم وعُمق. إِنه الحقيقة ذاتُها. من يقرأُه يظنُّه لم يتأَمل جمالًا في حياته. ما يعمله ويقوله، يعكس مَن هو، لكنه يَغرق أَحيانًا في صراع مع ذاته، ويصبح كما تصاعُدُ النغمات في الأُوركسترا يُغرق النغمات التي يبثُّها الناي. فريد هو، واستثنائي بقلبه وفكره، وروحُه صافيةٌ واضحةٌ كزنبقة عند الغروب. سوى أَنني أَرى في خطه تعقيدًا، وعدمَ استقرار في اتخاذ القرار، وارتباكًا في بعض المواقف، وصدمةً من القدَر، لكنه يبقى رفيع المستوى لائقًا بقناعاته التي بها يواجه مصيره. كأَنما هو ذاته وعى ذات يوم فاكتشَف ذاته، وأَحس بنَفَسه مثْقَلًا ويخرج منه بصعوبة. لكنه خرج من كل ذلك قويًّا متغلِّبًا على كل صراعه الداخلي، ولو هو في بعض الحالات يرى أَنه نقطة ماء متدحرجة في منحدر. وهو يقدِّس الصداقة، فيتسامح مع أَصدقائه ولا يبدِّل موقفه منهم، ويكون لتسامحه أَثر على قراراته، فيهرع بكليّته لنجدة صديقه إِذا احتاجه صديقه.
متصالح مع ذاته
يبدو لي أَنّ الريحاني لم يكن دومًا على توافُق مع ذاته، فلَه، كما للكثيرين سواه، مراحلُ في الحياة ملتبسةٌ، كان فيها يرى كثيرًا ولا يحصل إِلَّا على القليل، فصدرَت منه عن تلك المراحل مواقف غير ناضجة. كانت الأَحداث والمناسبات تلاحقه ككابوس في يقظته، وكان يصرخ تحت هذا التعذيب كرجل نصف مكفَّن تحت أَطنان من الصخور، يعيش حياةً كأَنها ليست حياته، لكنه بقي حيًّا. وهو لم يكن يلتوي تحت قدره، لذا لم يخسر حيويته ولا شجاعته، وبقي يَنعم بنزْرٍ من السعادة ولو يسير، ويبقى على الرجاء. وحتى في فترات عذابه لم يكن يمزُج الخيبة بالتفاؤُل، وكان يَنْهَدُ إِلى السلام الداخلي، ويَغْنَم منه في قرارة قراراته. وبشخصيته القوية كان ينهض من كل خيبة. وبهذه الشخصية كان هو ذاتُه مهندسَ هيكله، وكلَّما أَنجز فيه أَمرًا يشعر أَنَّ الله يسكن فيه فيغتبط.
هو ودرجات الصداقة
كانت له، كما للكثيرين سواه، علاقات ثانوية، وكان يعرف أَن يساوي بينها بما لا يعكِّر صداقاته الحقيقية. ولا يمكنني أَن أَصف لكم عمق صداقته التي تنبع من صدْقه المطلق وإِخلاصه حيال أَصدقائه، خصوصًا مَن يبادله بينهم تلك الصداقة المطْلقة.
كات الأَقربَ إِليه كلُّ ما هو جميل، كريم، وواضح. لديَّ الكثير أَقوله حول هذا الأَمر لكن المساحة المعطاة لي لا تكفيني لأَتبسط في تفاصيل دقيقة مهمة في شخصيته، منها: انفعالاتُه القُصوى، وميلُه إِلى الجلوس في حضن الطبيعة (كما كان قبله الكاتب الإِنكليزي پيرسي شيلي)، وانتشاؤُه بعوامل الطبيعة من عواصف وغيوم ونور وبروق ونجوم ومغيب وشروق، ووعيُهُ على خيبته حيال أَمر تحمَّلَه، وقرارُه أَلَّا يقع فيه مجددًا.
هو والنساء
كانت له في النساء نظرة خاصة إِلى الحب الحقيقي المستدام. ولا أَدري إِن كانت نظرتُهُ هذه نابعةً من أَن امرأَةً أَحبَّته كثيرًا، أَو أَنه يدرك حدسيًّا أَن هذا الحب الكبير موجودٌ ولا بدَّ أَن يجده. لذا لا أَدري إِن كانت له صداقات نسَوية عميقة، أَم أَنها كانت صداقات هامشية عابرة. لذا أَقول إِنه وُلِدَ كي يكون سعيدًا، لكنَّ أَحداثًا مؤْلِمةً في حياته جعلتْه إِلى تلك الموجات من الحزن”.