برج بابل في الأَدب والفن (3 من 3)
لوكاس فان فالْكِنبُرخْ: رسم ذاتي عند يسار اللوحة
في الجزء الأَول من هذه الثُلاثية عرضتُ كيف لم يعُد برج بابل مجرد رمزٍ لِلَّغْطِ في اختلاط اللغات وتعدُّدها، وفي الجزء الثاني عرضتُ عملين (الأَول فني والآخَر أَدبي) بتأْثير من برج بابل.
في هذا الجزء الثالث والأَخير أَعرض عملَين آخَرين، الأَول فني والآخَر أَدبي.
لوكاس فان فالْكِنبُرخْ: “برج بابل”
هو الفلمانكيّ لوكاس الأَب (1535-1597)، اشتهر برسم المناظر الطبيعية، وأَحيانًا برسم الوجوه، ومراتٍ برسم الأَسواق الشعبية في بيئته ومحيطه. وكان رسامَ بلاط الأَرشيدوق ماتياس (1557-1619) حاكم المقاطعات الهولندية في بروكسيل منذ 1612 حتى وفاته (حكَمَها الفرع الإِسباني لسلالة هابسبورغ من 1556 إِلى 1714).
بعد بلاط ماتياس انتقل الرسام إِلى النمسا ومنها إِلى أَلْمانيا، وفيها التقى عددًا من رفاقه الرسامين كانوا لجأُوا إِليها لأَسباب دينية ضاغطة في بلدانهم.
لوكاس الأَب كان مُعاصرًا بيتر بروغْل الأَب، ومثْله رسم “برج بابل” أَكثر من مرة. قبْل لوحته الشهيرة عنه (1594) كان رسَمَهُ في لوحةٍ سنة 1568 ثم عاد رسَمَهُ ثالثةً سنة 1595. وبدا أَنه وضع لوحاته الثلاث بتأْثير من بروغْل، خصوصًا لوحتَي 1568 و1594. وهو، مثْل بروغْل أَيضًا، رسم لوحاته متأَثِّـرًا بشكل “كولوسيوم” روما.
وإِنها فعلًا مفارقةٌ لافتة أَن يكون متأَثِّرًا بلوحات معاصره بروغْل إِلى هذا الحد، وتقريبًا بمصدر التأْثير ذاته. كأَنما هو، كما بروغْل، تأَثَّر بأَحداث السقوط التاريخية ذاتها، منها، وربما أَبرزها: سقوط تيار الإِصلاح في عصره. فمع خطر انحسار التيار الكاثوليكي حيال صعود التيار البروتستانتي، عمدَت دولة الفاتيكان إِلى بناء بازيليك القديس بطرس بفخامة لافتة.
وإِزاء محاولة فالْكِنْبْروخ أَن يقيم في رسمه توازيًا بين تصاميم صروح الكنيسة الكاثوليكية وشكل برج بابل، يبدو ميَّالًا أَكثر إِلى رفض تصاميم الكنيسة الكاثوليكية. من هنا يبدو مغْرقًا في البروتستانتية وكذا كان شقيقُه إِذ غادرا مدينة أَنتْوِرب (بلجيكا) عند اندلاع ثورة 1566 وهرَبَا لاجئَيْن إِلى أَلمانيا، تمامًا مثلما بدا في لوحته “برج بابل” (1594) ظهَر سكانٌ يغادرون مدينة بابل قبل أَن يندلع الحريق الكبير ويؤَدِّي إِلى سقوط البرج.
هذه العودة المتكررة ثلاثًا إِلى رسم برج بابل (كما بروغْل ولاحقًا كما عدد آخر من الرسامين الفلمنكيين) تشير إِلى نقد قاسٍ ضدَّ المبالغات، وخصوصًا لدى السلطات الرومانية الكنسية التي كانت تسخو بشكل كبير جدًّا لابتناء بازيليك مار بطرس في الفاتيكان. وللظاهرة ذاتها من رسْم “البرج”، تفسير آخر: تمجيد التقدُّم التقني الذي يعِدُ بولادة عالَم جديد متناسق مرتَّب نقي واضح، طالع من رواسب الفوضى في الحالة “البابلية”.
برج بابل مُلهِمُ الفنانين
أَنطونيا سوزان بايات: “برج بابل”
هي البريطانية أَنطونيا سوزان دافِّي (1936-2023)، ناقدة وروائية وشاعرة وكاتبة قصة قصيرة، اتخذَت اسمها الأَدبي (A. S. Byatt) من زواجها بالاقتصادي البريطاني يان بايات. لها مجموعة كبيرة من الكتب تُرجم أَكثرها إِلى نحو 30 لغة عالَمية.
تأَثرَت من مطالعها بكتابات هنري جيمس وجورج إِليوت وت.س. إِليوت وإِميلي ديكنسون، ونحَتْ في كتابتها بين الواقعية والطبيعية في فانتازيا أَدبية اشتُهرَت بها.
روايتُها “برج بابل” (1996) هي الثالثة التي تتمحور حول رباعية روائية عالجتْ فيها سيرة فردريكا بوتِّر (“العذراء في الحديقة”، “الحياة الصامتة”، “برج بابل”، “المرأَة الصافرة”). نالت سنة 2002 “جائزة شكسبير”، وسنة 2016 “جائزة إِيراسموس”، وتم ترشيحها أَكثر من مرة لنيل جائزة نوبل للأَدب.
في متابعتها الروائية فردريكا بوتِّر، تروي في روايتها “برج بابل” أَن نيغل، زوج فردريكا لثريّ والساديّ في آن، هجم عليها وفي يده فأْس، فهربَت من بيتها الزوجي وأَخذت معها ابنها الأَصغر لِيُو وسافرت إِلى لندن. وهناك عملَت مُدرِّسة في مدرسة للفنون وتعرّفت بشعراء ورسامين وخصوصًا بالروائية الكندية جود مايسون التي أَودت بها مؤَلفاتها الجريئة إِلى المحاكمة.
في صميم الحبكة الروائية مسأَلةُ اللغة التي لها مراتٍ أَن تسهِّل التواصل مع الآخرين، ومراتٍ أَن تعقِّدها. ففي مرحلة طلاق فردريكا كانت حياتها الأَدبية ضدَّها، لأَن محامي زوجها حاولوا إِقناع قضاة محكمة الطلاق بأَن امرأَةً تُمضي وقتها في قراءة الكتب والكتابة لا يمكن أَن تكون أُمًّا صالحة. ولم يقتنع القضاة بأَن زوجها هاجمها بفأْس، وبهذا تَمَاكَرَ زوجها باللغط الذي قد تسببه اللغة عند سوء التفاهُم.
توازيًا، كانت رواية جود مايسون “برج بابل” أَمام قوس المحكمة بتُهمة الفحش الزائد. من هنا أَن الليدي روزياس المعذَّبة، بطلة رواية “برج بابل”، تعكس حالة فردريكا ذاتها. وحين بدا أَنَّ القضاة مالوا إِلى وجهة نظر فردريكا كانوا الأَقرب إِلى نظرة جود في جرأَتها الـمُحقَّة.
هكذا، مما مرَّ أَعلاه، يتَّضح أَن رواية “برج بابل” لاقَت رواجًا واسعًا من حيث عقْدتها الروائية التي تطال مساحةً واسعة من النساء ذوات الحالات الشبيهة في الحياة الشخصية والخاصة، كما في العلاقات الحميمة وما يخالطها من سُوء تفاهم أَو من سقطات وعثرات بسبب لغط اللغة التي هي وسيلةُ الاتصال الأُولى وفي الوقت ذاته واسطةُ انكسار الاتصال.
وبذلك، نجد أَن أُسطورة برج بابل – وما فيها من لغط وفوضى وسُوء تفاهم – ستبقى دائمًا محور أَعمال أَدبية وفنية، كما ستكون دومًا رمز ما يعتري العلاقات بين الناس من سوء تفاهم في ما بينهم.
غلاف “برج بابل” لأَنطونيا بايات