برج بابل في الأَدب والفن (1 من 3)
برج بابل بين الأُسطورة واللوحة
لم يعُد برج بابل مجرد رمزٍ لِلَّغْطِ في اختلاط اللغات وتعدُّدها، وفي التعبير عن سوء التفاهم بين أَفرقاء لا يتفاهمون ولا يبلُغون نقطة اتفاق. فهو برمزيته دخَل مع الوقت إِلى عالم الأَدب والفن فظهَر في مؤَلفات عدَّة عبر أَنواع مختلفة من الكتابات، كما ظهَر في عدد من اللوحات التعبيرية والتجريدية، فتركَّزَ في الذاكرة الجماعية أَثرًا تاريخيًّا وفنيًّا وأَدبيًّا خالدًا.
أَين ظهر برج بابل في الأَدب والفن؟
هذا ما أُعالجه في هذا المقال من ثلاثة أَجزاء.
أَصل التسمية
ورَدَ ذكْر برج بابل في “سفر التكوين” (الإِصحاح 11، الآيات إِلى 9)، وجاء فيه: ” كانت الأَرض كلُّها لسانًا واحدًا ولغة واحدة. وحدَث في ارتحالهم شرقًا أَنهم وجدوا بقعةً في أَرض شنعار فسكنوها، وقال بعضهم لبعض: “فَلْنَصْنَع لُبْنًا حتى نَشويه”، فكان لهم اللُبْنُ مكان الحجَر، وكان لهم القار مكان الطين. وقالوا: “فلْنبْنِ لنا مدينةً وبرجًا رأْسُه حتى السماء، ولنتخذ لنا اسمًا لئلَّا نتبدد تائهين على أَرض البسيطة”. ونزل الرب ليرى المدينة والبرج كيف يبنيهما بنو آدم، فقال: “هوذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وببنائهم هذا سينالون كلَّ ما يريدون وما ينوون أَن يعملوه. فلننزل ونبلبل لسانهم فلا يَسمع بعضُهم لسان بعض”. وبدَّدهم الرب من هناك فانتشروا على وجه كل الأَرض وكَفُّوا عن بنيان المدينة التي دُعِيَتْ بابل لأَن الرب بَلْبَلَ لسانهم”.
هذا المقطع الأَصلي من الكتاب المقدس/العهد القديم، يفسِّر رمزيًّا معنى أَن تكون لسكّان الأَرض لغات متعدِّدة، وأَن يختلف الناس في ما بينهم ويجدوا صعوبات جمة في التخاطب عبر تلك اللغات المختَلَطة. في البدء كان العالم كلُّه يتكلم بلغة واحدة، وحين اتجه السكان شرقًا ووصلوا إِلى أَرض شنعار (جنوبيَّ “ما بين النهرَين” أَو “بلاد الرافدَين”)، أَخذوا يبْنون مدينةً فيها برجٌ يعلو شاهقًا صوب السماء. وقرر الربُّ أَن يفرِّقَهم شتاتًا فأَفسد مشروعهم البنائي، وبعثرهم بدَدًا حتى لم يعودوا قادرين على التفاهم في ما بينهم، ولا على مواصلتهم بناءَ المدينة. هكذا ولدت الإِنسانيةُ المتعددة اللغات.
هذه الظاهرة وَجَدَت عبر العصور صدى عميقًا لها لدى كُتَّاب ورسامين، وهنا بعضٌ منهم كما عبَّروا عنها كتاباتٍ ورُسومًا مستوحاةً من أُسطورة برج بابل.
“ساعات بدفورد” (1410-1430)
في التقاليد الإِيمانية الكاثوليكية، وذات فترةٍ دينية من تاريخها، اشتُهرت كتب الصلاة لديها بِاسْم “كتُب الساعات”. وباقيةٌ من القرون الوُسطى مخطوطات، بينها كتاب “ساعات بدفورد” (مدينة في إِنكلترا) يضمُّ نحو 1200 منمنمة تاريخية صغيرة. والكتاب وُضِع أصلًا (نصًّا ومنمناتٍ مع النصوص) احتفاءً بعرس آنَّا بورغوندي وجون لانكَستر (دوق بدفورد) نهار 13 أَيار/مايو 1423. وعشية الميلاد سنة 1430، أَهدت آنَّا تلك المخطوطة إِلى نسيبها الملك الطفل هنري السادس وكان لا يزال في التاسعة.
في هذا الكتاب سلسلة منمنمات مستوحاة من بناء برج بابل، وكيف أَمَرَ الربُّ بتهديمه. لكنَّ المخطوطة تروي أَن العمَّال عادوا يبنون البرج بإِشراف نمرود (أَحد أَحفاد نُوح).
جيمس جويس: “يقظة آل فينيغان” (1939)
حين صدرت هذه الرواية الطويلة الضخمة (أَربعة أَقسام في 17 فصلًا) شكَّلَت ثورة في الأَدب، وركَّزت مؤَلفَها الكاتب الإِيرلندي جيمس جويس (1882-1941) عند صدارة الحداثة في الأَدب. والرواية صعبة القراءة والاستيعاب، لاقت نفورًا في بدء ظهورها بسبب صعوبتها اللُغوية وما فيها من رموز معقَّدة. ومن هنا اللغط الذي جعل مؤَلفها ينحو إِلى أُسطورة انهدام برج بابل، أَي تَعَدُّد اللغات والخلط في ما بينهما وانعدام التفاهم بين الناس. من هنا ورود كلمة “بابل” إِحدى وعشرين مرة في الرواية، وشاء جويس منذ مطلع الرواية إِظهار هذه الظاهرة كي يضع قارئه منذ البداية في هذا الجو وما فيه من لغط في هدم اللغة الواحدة.
جيمس جويس كتب هذه الرواية في باريس طيلة 17 عامًا، ونشرَها عام 1939 (قبل عامين من وفاته) وكانت آخر أَعماله. وهو كتبَها بلُغةٍ ومعانٍ غامضة، مازجًا فيها كلمات معجمية إِنكليزية بأُخرى مُستحدثة وتعابير لغوية متعددة غريبة.
هذا اللغط في اللغات شَغَلَ أَيضًا كُتَّابًا آخرين في السنوات الأَخيرة من القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، وتلك كانت ما سميت “اللغات الكونية”، كما عمل عليها فقهاء اللغة في تعدد اللهجات ضمن اللغة الواحدة.
سقوط “برج بابل” أَم سقوط الإِنسان؟
حرص جيمس جويس أَن يُدخل في روايته عناصر من نحو 10 لغات مختلفة ولهجات متعددة، منها لغة “الإِسبيرانتو” (نشأَت سنة 1887). وحيال رمز “اللغات الكونية” تعويضًا عن تعدُّد اللغات لدى انهدام برج بابل، وما سبّب من انفراط عقد اللغة الواحدة عند بنيانه، وجَد جويس منفذًا لنظريته في ذاك اللغط الذي سبَّبه انهدام البرج. كان يشكُّ في العودة إِلى اللغة الواحدة لذا عدَّد أَلْسِنَةَ التفاهم، على غناها، ولو أَحيانًا في تفاهم غير كامل، بل ذهب أبعد من سقوط برج بابل ليبلغ إِلى سقوط الإنسان. من هنا سعى النقاد إِلى البحث في رواية جويس لا عن إِيجاد تفسيرٍ لانهدام البرج بل عن تفسير أَشمَل لأُسطورة برج بابل بكاملها.
(جزء ثانٍ في الحلقة التالية)