في لغةٍ فرنسيةٍ متينةٍ على سَـلاسة، نَضِرةٍ على عصْريةٍ غيرِ متسرِّعة، وضعَ الأديب اللبناني العائش في پاريس عبدالله نعمان جديدَهُ (À tire d’ailes) ما يعني بالعربية “على جناح الطير” أو “بأقصى سرعة”، وهو مَجموع أَربعَ عَشْرَةَ قصةً قصيرةً أو متوسّطة، واقعيةً في جميعها، رواها له أصدقاءُ ومقرّبون، صاغها بنبرته الساخرة أو الباسمة أو الكاريكاتورية على عُذوبةِ أُسلوب.
صدر الكتاب في پاريس لدى منشورات “تيرايِيدْر” (Téraèdre) في 160 صفحة قطعاً صغيراً.
بين هذه القصص الأربعَ عَشْرةَ، سبْعٌ لها علاقة بلبنان أَشخاصاً أو أحداثاً أو إهداءً، هي: “سُوء فَهْم”، “زوجة البحر”، “دُنيا” (مُهداة إلى “رُبَى” وهي ابنةُ المؤلف الوحيدة)، “عبدالقادر”، “مفتاح أُم الياس”، “السِّتّ ماريكّا”، “تكريمٌ بعد الوفاة” (مُهداة إلى “أبو عبدالله”، وهو متري نعمان والد المؤلف).
بين هذه القصص يتنقّل الكاتب في ثنايا حوادثَ وشخصياتٍ وأماكن، بَعضُها معروف بالاسم، منها حريصا (الضيعة التي وُلِدَ فيها المؤلّف قبل انتقاله إلى صربا على شرفة الشير المطلِّ على خليج جونيه)، ومنها مُخيَّم صبرا في بيروت، و”شارع المتنبّي” خلف مركز شرطة المباحث العامة على ساحة البرج في بيروت.
بعضُ هذه القصص ينتهي بمأساة أو خاتمة مُحزنة، كما في قصة “سُـوء فَهْم” المرتكزة على قراءةٍ مغلوطةٍ لبرقية جاء فيها “وَحيد قرَّر” (Wahid décidé) فَـقُرِئَتْ “وحيد تُوَفِّيَ” (Wahid décédé)، وجاء فيها “الخطوبة نهار الأحد” (Fiançailles Dimanche) وقُرِئَتْ “الجنازة نهار الأحد” (Funérailles Dimanche).
ومن القصص ما ينتهي بنبرةٍ قارصة الغصّة، كما في قصة “مفتاح أُمّ الياس”، عن المرأة التي، طيلة سنواتِ حياتها في بيروت، احتفظَت بمفتاح بيتها في حيفا منذ هربها منها مع بضع حبوب من ليمون حيفا بقِيَتْ رائحتُها في مسامّها طيلة حياتها. وحين دنت ساعة موت أُمّ الياس، وفي حضور أربعٍ من جاراتها، أخرجَت من تلافيف ثوبِها المفتاحَ الذي صدئَتْ جوانبُهُ إنما بقيَ قلبه سليماً، قبَّلَتْهُ، وَضعَتْه على صدرها وقالت لَهُنّ: “يا صديقاتي، أشعر بدنوّ ساعتي، وسأمضي هانئة رضيّة. هذا المفتاح حملْتُه في ثيابي منذ 1948 أيقونةً من بيتي الذي ولدْتُ فيه. لم يفارقْني هذا المفتاح يوماً وحداً. واليوم أعرف أنه لن يفتحَ لي بابَ جَنَّتي في حيفا كي أدخلَها، فاحفَظُوه في مكانٍ أمين. أعرف أن العقارات اليوم هابطةٌ في فلسطين، ولكن قد ترتفع قيمتُها يوماً، ويعودُ إلى حيفا أهلُ حيفا، فلْيُعْطَ هذا المفتاح إلى شابّ وصبيّة عروسَين يبحثان عن بيت لَهما في حيفا”. قالت أُمّ الياس هذه الكلمات، ولفَظَت الروح بعد لحظاتٍ من شَعَّةِ أَملٍ رسَمَتْ على وجْهِها صورةَ حُلْمٍ لَم يَتَحَقَّق”.
وهكذا في سائر القصص: نَبرةٌ بارعةٌ من عبدالله نعمان، تتراوح بين التَّهكُّم والسُّخرية والمرارة المالِحة، في هذا الكتاب (À tire d’ailes) الذي يُكمِلُ سلسلةَ مؤلفاتٍ فرنسيةٍ تَصْدُرُ في فرنسا لكُتّاب لبنانيين يُخاطبون قارئَ الغرب بِلُغاتِه، فيحملون إليه في قلمِهم روحَ لبنان، وفي قلبهم نبضةَ لبنان، وفي شخصياتِ رواياتهم ملامحَ تلميحيةً أو واضحةً من شخصياتٍ أَو أَماكنَ حقيقيّةٍ، منها بالأمس “صخرة طانيوس” أمين معلوف، ومنها اليوم “حريصا” عبدالله نعمان.
هنري زغيب email@henrizoghaib.com