4 كانون الأول 2007 العدد 12396 السنة 36
صديق لي كان في سويسرا يزور زميلاً روى له أنّه تلقّى إنذاراً من حكومة المقاطعة بوجوب تغيير لون مبناه. سأله صديقي: “وهل تتدخّل الحكومة في لون المبنى”؟ أجابه السويسري: “طبعاً لا. إنما جاء في الإنذار أنّ جميع المباني ضمن هذا المجمّع السكني هنا في الحيّ مدهونة بالأبيض. جئتُ أنا فدهنْتُ بنايتي بالأزرق الفاتح، اللون الذي تحبه زوجتي. تقدَّمَ سكان الحي بشكوى الى البلدية بتهمة “تلويث النظر”، فجاءني الإنذار ينبّهني الى أنني لوّثت منظر الحي ببنايتي التي خرجت عن سائر الأبيض، وطلب مني تغيير لون بنايتي الى الأبيض كسائر بنايات الحي”.
صديق لي آخر كان يُمضي وعائلته شهرين في فيينا. استأجر شقّة في الطابق الخامس من مبنى في ضاحية فيينا، واستأجر سيارة ليسيح بها على معالِم النمسا الحضارية. وذات مساء، بعدما عاد من جولة له في المدينة، طرق بابه الشرطي وسلّمه إنذاراً من البلدية. قرأه فاكتشف أن جارته في الطابق الأول تقدَّمت بشكوى ضده متّهمة إياه بأنه يدير مُحرّك سيارته دقائق طويلة (لتحمية المحرك في الصباحات الباردة) وهو بذلك “يلوّث بيئة الحي”.
وهذا الصديق نفسه (في فيينا) علمَ من صاحب البناية نفسها (وكان يسكن الطابق الأعلى: السابع) أنه، حين اشترى قطعة الأرض وأراد المباشرة بالبناء وتقدّم من البلدية بطلب الرخصة، جاء موظف البلدية يتفحَّص المكان كي يرفع تقريره بصلاحية البناء على تلك القطعة، والتقط لها صُوَراً رفعها مع تقريره. بعد أسبوع عاد الموظف وبادر صاحب المشروع بأن في وسط القطعة شجرة عالية، فكيف سيفعل كي يبني ولا يقطع الشجرة؟ أبرز له الرجل خارطة البناء المتوقعة، ووجد الموظف أن لا حل إلاّ بقطع الشجرة، فاستمهله كي يعود الى المسؤول عن قطاع الشجر في البلدية ليدرس الموضوع. استغرق “درس الموضوع” نحو أُسبوعين، عاد بعدهما الموظف بنتيجة “الدرس” وكانت التالية: “بِما أن الشجرة موضوع الدرس هي من نوع نادر غير متوفر في جميع المناطق النمساوية، وبما أن الدولة حريصة على هذا النوع النادر من الشجر وتريد الحفاظ عليه، فالمطلوب من صاحب المعاملة زرع خمسة أنصاب صغيرة لهذا النوع نفسه من الشجر على أطراف قطعة الأرض، بما لا يتعارض والمساحة المبنية، وبما يُبقي على هذا النوع مستمراً في قطعة الأرض، وبالتالي متواصل الحضور في النمسا”.
وختاماً: قرأت الأسبوع الماضي خبراً من “يونايتدبرس” أن بلدية ميلانو أصدرت “بطاقة مرور بيئية” للتخفيف من أزمة التلوُّث في إيطاليا، تقضي بمنع الدخول الى المدينة إلاّ بعد الحصول على هذه البطاقة التي يتراوح ثمنها بحسب ما تشير آلة تكشف مقدار التلوث الذي تسببه كل سيارة (أو دراجة نارية أو شاحنة…). وبعد فحص الآلية المعنيَّة للمرة الأُولى، وتَحديد كمية التلوُّث الذي تسبِّبه، يمكن السائق شراء بطاقاته التالية (كلما أراد دخول المدينة) من مصرف معيَّن في ميلانو، أو من مراكز بيع مُخصصة، أو حتى من الإنترنت.
الخلاصة: بين “زجْر” من عليه أن يغير لون بنايته، و”إنذار” من يدير مُحرك سيارته طويلاً قبل الانطلاق بها، و”إرغام” صاحب مشروع البناء على زرع خمسة أنصاب من شجرة سيقطعها قبل البناء، و”فرض” بطاقات خاصة بمقدار التلوث قبل دخول المدينة، “وحرص” الدول الراقية على “تلوُّث النظر” و”تلوُّث الهواء” والحفاظ على نوع معيَّن من الشجر، أتساءل بشعورٍ هو بين القهر والشماتة: “أين أنتَ، من كلّ هذا، أيها العالم العربي”؟