ماركوس أُوريليوس: الحكْم استنادًا إِلى الفلسفة (2 من 2)
– ريشتارد هاريس لعب دور أُوريليوس في فيلم “السيَّاف” (سنة 2000)
في الجزء الأَول من هذا المقال، سردتُ لمحة عن نشْأَة الأَمبراطور الروماني ماركوس أُوريليوس (121- 180) الذي حكَمَ في أَزهى عصور الأَمبراطورية الرومانية بإِدارة حازمة حاسمة، وحقَّقَ إِنجازات عظيمة، وستراتيجيات عسكرية باتت مراجعَ بعده، وكان متأَثرًا جدًّا بالمذهب الرواقي القائم على التقشُّف والصبر على الصعوبات.
في هذا الجزء الثاني الأَخير أَسرُدُ لمحات من الفلسفة الرواقية، وكيف ساعدت أوريليوس على النجاح في حكْمه.
كيف بلغ الرواقية؟
يرجَّح أَن الذي أَدخل أُوريليوس إِلى المذهب الرواقي هو الفيلسوف الإِغريقي أَبولونيُوس التيانيّ (نسبةً إِلى تيانيا، وهي بلدة قديمة في مقاطعة كابادوكيا، وهذه الأَخيرة في منطقة الأَناضول، أَو آسيا الصُغرى). وُلِد سنة 15م. وتوفي سنة 100. أَمضى حياته معلِّمًا متنقِّلًا في الشرق الأَوسط وشمالي أَفريقيا وجنوبي آسيا. وكان الأَمبراطور أنطونينوس بيُّوس يستقدم، مع الخطباء، فلاسفةً ليُدرِّسوا ابنَيه بالتبني أُوريليوس ولوسيوس فيرُس وريثَي حكْمه الأَمبراطوري. ويبدو أَن تعاليم أَنطونينوس أَثَّرت على الأَول (أُوريليوس) أَكثر مما على الأَخير، ولاحقًا ساعدتْهُ على تخطِّي صعوباتٍ واجهتْهُ إِبان حكْمه كأَمبراطور. من هنا ما جاء في كتابه “التأَمُّلات”: “تعلمتُ من أَنطونينوس أَخلاق الحرية، وكيفية الإِشاحة عن الركض وراء الثروة، والتركيز على التعمُّق في العقل والمنطق، والحفاظ على التوازن في الشخصية، وعدم الرضوخ للضعف في حالات الأَلم وفقدان عزيزٍ أَو الوقوع في المرض”.
النظريات الرواقية الثلاث
بين الفلاسفة الذين استقدمهم أَنطونينوس لتعليم أُوريليوس: الفيلسوف الرواقي كوينْتوس روستيكوس فأدخل أُوريليوس إِلى عالم الرواقية الذي كان أَيضًا عالَم أَنطونينوس. ويرى المؤَرخون أَن أُوريليوس أَخذ معظم التعاليم عن روستيكوس، فكان تلميذه الوفيّ ولذا تأَثَّر منه بالرواقية، خصوصًا لما روستيكوس علَّم أُوريليوس مبادئ الفيلسوف الرواقي الإِغريقي إِبيكتيتوس في كتابه “الخُطَب”، ومنه تأَثَّر أُوريليوس لاحقًا بانغماسه في الفكر والفلسفة ينبوعًا للحُكْم انطلاقًا من مبادئ الرواقية، ونهجًا له يوميًا في مزاولاته كأَمبراطور. فالفلسفة لدى الأَغارقة نهجُ حياة يومية، وخارجَها لا قيمةَ للمداولات ومزاولات الحياة اليومية، فالحُكم نظرية وتطبيق معًا، ولذا يسعى الأَمبراطور إِلى تطبيقه في الحكْم قيَمًا ساميةً عليا يكون اكتسبها من أَفكار فلسفية نظرية، كالرواقية بالنسبة لأُوريليوس الذي اعتنق نظريات إِبيكتيتوس الرواقية الثلاث: “نظام الرغبة، نظام المساواة، ونظام الحكم العادل”.
من هذا الأَعلاه كلِّه في التعاليم الرواقية، كان حكْم أُوريليوس لافتًا في التاريخ. وبها تمكَّن من الغلبة في الحروب، والسيطرة الإِدارية على أَراضي حكْمه بالرغم من وساعتها الشاسعة، كما السيطرة حتى على وباء الطاعون الذي قضى على ربع سكان أَمبراطوريته. وممن توفوا (سنة 169م) أَخوه في الحكْم لوسيوس فِروس فأَكمل في الحكم وحده متكلًا على حكمته الرواقية فكان أَحد أَفضل خمسة حكَّام في التاريخ.
ملامح من حكْم أُوريليوس
في “قانون يوستينيانوس” (القرن السادس) ذكْرٌ لأُوريليوس وكيف أَنه كان “أَكثر الأَباطرة تطبيقًا القانونَ في عهده”. وتمكَّن من السيطرة على جميع تخوم أِمبراطوريته الشاسعة التي كانت فترتئذٍ تهدِّدها القبائل الفارسية ثم الجرمانية. دامت حروبه معها نحو أَربعة عشر عامًا، هي الفترة التي وضع خلالها معظم فصول كتابه “التأَمُّلات”، وفيها يظهر جليًّا مدى ما قاساه من ضنى وقهر وتشنُّج أَعصاب إِبان حكْمه روما. وجاء في أحد الفُصُول: “كُن مثل الأَرض الصخرية التي تتكسَّر عليها أَفواج الموج، وتبقى صامدة لا تتزحزح ولا تتأَثَّر، وتبقى المياه حولها ساكنة لا تَتأَثَّر”.
وفي فصل آخر كتب عن التأَلُّم والقهر: “قد يواجه أيُّ حاكم صعوبات أليمة وقاهرة إبان حكمه، إنما ليس كل حاكم قادرًا على تخطَّيها من دون ندوب وجراح، بل عليه أن يواجهها ويتخطاها في صبر وتبصُّر”.
تلة القصور في روما، لم يسكنها أُوريليوس بل فضَّل التقشُّف في بيت عاديّ
الرواقية حتى اليوم
هذه هي الرواقية التي لا تزال قائمةً حتى اليوم في القرن الحادي والعشرين، بدليل تنامي رواد موقع “الرواقية” (نحو مليونين حتى اليوم) على منصة “إِنستاغرام”، وتنظيم ندوة سنوية عن الرواقية في ملبورن (أُستراليا) ولوس إِنجلس، يرتادها آلاف المهتمين حضوريًّا هناك أَو عن بُعد على المنصات الإِلكترونية، وبالرواقية تتم اليوم معالجة المرضى الذين يعانون من صدمة قاسية في حياتهم.
من هنا أَن كتابات الفلاسفة الأَغارقة (على رأْسهم إِبيكتيتوس وسينيك) لا تزال تعاد طباعتُها حتى اليوم، ونموذج أُوريليوس في الحكْم ما زال نموذجًا يحتذى حتى اليوم.
وحين عمَّت العالَمَ جائحةُ الكوفيد (الكورونا)، لاحظَتْ دار النشر النيويوركية “بنغوان” ازديادًا على طلب كتب الرواقية، في طليعتها كتاب الأَمبراطور أُوريليوس “التأَمُّلات”. ذلك أَن هذا المذهب الفلسفي القديم ما زال له تأْثيرُهُ حتى اليوم كأَنما هو وصية من الفكر اليوناني القديم عن قيم الحكمة والاستقامة وحب الحياة، وكأَنما الرواقية هي أَيضًا وصية من أُوريليوس إِلى حكام العالم اليوم، أَن يستندوا إِلى الفكر والفلسفة في أَحكام حكْمهم.