جوشُوَى رينولدز: هل هذه ريشةٌ أَم كاميرا؟ (2 من 2)
رينولدز والممثلة ساره سيدونز
في الجزء الأَول من هذا المقال سردتُ مطالع هذا الرسام المبدع جُوشُّوَى رينولدز الذي اشتهر كأَفضل رسام وجوه في عصره (القرن الثامن عشر). في هذا الجزء أُواصل ما كان له من سيرة ومسيرة وسْط بيئة تراوحت لديه بين بورجوازية ثرية، وعاديةٍ كان يُلبسُ لوحاته فيها أَثوابًا فخمة كي تعادل البيئة الثرية.
فما الذي كان يفعله؟
إِرضاء زبائنه
كان دومًا يسعى إِلى إِرضاء زبائنه فينفِّذ كل ما يطلبون منه ولو مراتٍ عكس قناعاته. لذا كانَ ينصاع لرغباتهم فيرسمهم بأَثواب فخمة وحولهم أَثاث فخم وديكور في القاعة مزركش، فيبدو الشخص من الأَثرياء البورجوازيين حتى ولو لم يكن كذلك في واقع حياته لأَنه لا يستطيع أَن يقتني تلك الثياب وذاك الديكور الفخم، ما لم يكن سائدًا ومنتشرًا إِلى هذا الحد في القرن الثامن عشر. لذا كان رينولدز يلجأُ إلى صُوَر من العصور القديمة فيرسم الأَشخاص أَمامه وسط تلك الفخامة، ما كان يرضيهم فيتكاثر زبائنه لذلك.
ولكي يكون ضامنًا ما قد يُطلَب منه، كان يقتني في محترفه ثيابًا فخمة مزركشة يؤجِّرهم موقَّتًا لزبائنه كي يرتدوها حين يرسمهم. من هنا ما قد يلاحظه من يتابع لوحاته أَن الفستان ذاته يتكرَّر في لوحةِ أَكثر من سيِّدة.
سوى أَن مقتنياته في الستوديو لم تكُن لإِرضاء زبائنه فقط، بل لأَنه هو يحب رسم اللوحات التاريخية، وتاليًا أَثوابَ العصور السابقة ما لم يكن في قدرة كثيرين أَن يقتنوها عصرئذٍ. ولأنه هو أَيضًا لم يكن قادرًا على ذلك براحة، كان يكتفي بصورها القديمة كي يستلهم منها لرسم زبائنه في تلك الأَثواب، مع ما يواكب طلبات زبائنه من أَقنعة مزخرفة وحرائر رومانية وقطَع ثمينة في الهياكل القديمة وفي الأَعمال المسرحية، ما كان يُضفي غنًى بيِّنًا على أَعماله.
اللباس والإطار دليل الثراء
سوى أَن تكرار الأَثواب في أَكثر من لوحة لم يكُن يلغي الفرادة في لوحاته. فلكلِّ زبون ذوقُه ومتطلباتُه، وَفْق مسيرته وطموحاته وذوقه، ووَفْق مركزه الخاص في الوسط الاجتماعي. منها مثلًا لوحةُ ثريٍّ مع كلب الصيد وبندقية على كتفه وسط منظر طبيعي واسع وجميل لم يكن يعني حب الصيد لدى الرجل بل مركزه الاجتماعي كذلك. وإِذ كانت الحكومة البريطانية أَصدرت سنة 1723 قرارًا خاصًّا بمنع الصيد في أَراضي السوى، كانت لوحة هذا الصياد في مساحة جميلة توحي بأَنه يملك تلك المساحة من الأَرض.
وإِذ رسم رينولدز سيدات يلاعبن أَطفالهنّ، لم يقتصر الهدف على تصويرهنَّ بتلك الأُمومة الحانية مع الأَطفال، بل تأَثُّرًا بنظرية الكاتب الفرنسي جان جاك روسُّو (1712-1778) في كتابه “إِميل أَو مبحث في التربية” (1762) أَنَّ أَفضل مكان لتعليم الأَطفال وتربيتهم هو في الطبيعة خارجًا إِنما مع أُمهاتهم لا مع الخادمات.
وبموازاة نظرية روسُّو، كان النبلاء في إِنكلترا يعيشون أَزمة ديموغرافية، لذا كانت لوحات الأُمهات مع أَولادهنَّ في الطبيعة توحي بصحة التربية وفاعليتها. وهكذا تفرَّد رينولدز، بين جميع أَقرانه عصرئذٍ، بهذا المناخ في لوحاته، ضمن إِطار العصور السابقة إِنما في إِطار عصره وثقافة عصره كذلك.
الممثلة جين أَبِنغتون
تأْسيس الأَكاديميَا الملَكية للفنون
اشتهر رينولدز سريعًا في أَوساط الأَثرياء والضالعين في القرار، لكن طموحه لم يكتفِ بهذه الشُهرة كرسام الطبقة البورجوازية النبيلة، فقام سنة 1769 بجمع 34 رسامًا وأَخذ تواقيعهم للمطالبة بإِنشاء أَكاديميَا ملَكية للفنون في لندن. فقبلذاك لم تكن في بريطانيا العظمى مؤَسسة متخصصة في تدريس الفنون. وما وصل الطلب إِلى الملك جورج الثالث حتى وافق عليه لِما كان يكنُّ لرينولدز من تقدير، وعيَّنه أَول رئيس على الأَكاديميا.
لكن ذلك أَيضًا، حتى ذلك، لم يُرضِ طموحه، هو الْكان يرغب في أَن يكون رسام البلاط الملَكي، مع أَن الملك كان لديه رسام آخَرُ مفضَّل هو توماس غينزبورو (1727-1788). سوى أن رينولدز حظِيَ بشرف أَن يرسم الملك مرة واحدة بعد تعيينه رئيس الأَكاديميَا، فشرح للملك بالتفصيل منافعها ومكاسب الوسط الفني التشكيلي منها.
طموحه لا إِلى حدود
صحيح أَنه لم ينل حظوةَ أَن يكون رسام البلاط، لكنه أَفاد من منصبه رئيس الأكاديميَا كي يلقِّن زملاءه الرسامين ثقافة فنية غنية، منها نظريتُه هو في الرسم، وخصوصًا رسم الوجوه. وإِلى إِيمانه العميق بتَفَوُّق الرسم في العصور القديمة، راح يركِّز في تعليمه على نظريات اللون وأُسلوب تأْليف اللوحة. وتلك نظريات لاقت قبولًا لدى البعض إِنما رفضًا لدى البعض الآخر كما الشاعر وليام بلايك (1757-1827) الذي رفض نظرية رينولدز في التطرُّق إِلى الفن العالي بتلك النظريات.
مع ذلك، شقَّ رينولدز طريقه إِلى الشهرة في عصره ولاحقًا، ولوحاته ما زالت إِلى اليوم تُدهش الناظرين إِليها حتى كأَنهم يكادون يتساءَلون: هل هذه ريشة أَم كاميرا!