27 تشرين الثاني 2007 العدد 12389 السنة 36
أعود الى بيروت من خمسة أيام في الكويت حفلت بكوكبة مشعّة من الفضاءات المعرفية الكويتية، فأجد بيروت مضطربةً من قلق، مترنّحةً بين الخوف والخطر، هي التي كانت، لفترة غير وجيزة، منارة الثقافة العربية، يرنو إليها العرب، كل العرب، ويؤمونها منبراً لهم ومرنى لأحلامهم وطموحاتهم.
هنيئة للكويت نعماها بِهذه النهضة التي كنتُ بين معالمها وأعلامها، أطف، في ما سوى أربعة أيام، حصاد أربعين.
فالذي لمستُه من روزنامة في برنامج المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (بين معرض الكتاب ومهرجان القرين بعده) يشير الى ورشة ثقافية تستقطب لها أعلام الكويت وضيوف الكويت لتضيء واحة من مستوى لائق يعلو كثيراً على تغطيات صحافية أفقية مسطحة (لأنشطة “المقهى الثقافي”) أو انفعالات شخصية لا علاقة لها بالنقد الموضوعي.
وما سمعتُه من أصوات كويتية جديدة (في ديوانية عبدالله النيباري) واعد بنخبة ناضجة من جيل كويتي جديد توجعه رقابة إحادية النظرة يتحكَّم بها الذين في عقولهم ظلامية أو عصبية أو أصوليةٌ لا علاقة لها بجوهر الثقافة أو عمق النص الديني أو العرفي، وهذه ليست صورة الكويت الحقيقية، كويت الانفتاح العادل وقبول الآخر في نبل العلاقة، كما أوضح لي السفير البابوي الى الكويت المطران منجد الهاشم حين زرتُه فتبسّط في أفق الكويت الوسيع الطالع من نضج التجربة البعيدة عن التشدُّدية الصماء.
وما عرفتُه أيضاً من عميد الجالية اللبنانية في الكويت، حين زرت سفارة لبنان للتهنئة في عيد الاستقلال، أكد لي أن الالتفاف الكويتي حول الجالية اللبنانية، وأن إسهامات اليد اللبنانية والعقل اللبناني والحضور اللبناني في الكويت، جسر لا الى انحسار.
وحين طالعتني نُخبة مثقَّفين أكاديميين وأدباء وصحافيين وتشكيليين في حلقة المحامي الكويتي الصديق عبدالعزيز طاهر، كانت لي معهم سهرة من تلك الجلسات التي لا تُثمر إلاّ بحضور من لهم ما لتلك النخبة الكويتية من ذخيرة ثقافية وفكرية.
وزيارتي مكتبة الشعر العربي التي وقفها عبدالعزيز سعود البابطين رسالياً للشعر والشعراء، أخذتني الى خيالات ما في بالي من مكتبات عربية عريقة في التاريخ العربي المشرق كان لها الرساليون حقاً رسلاً للمعرفة والثقافة وتغذية عقول الجيل الناشئ.
أما الزيارتان اللتان أخذتاني الى “المؤسسة الكويتية للتقدُّم العلمي” والى “المركز العلمي” الذي بإشرافها، فممّا زرع في قلبي بهجةً ينعم بها مثقفو الكويت العلميون من فرص متاحة (في “المؤسسة”)، والجيل الكويتي الجديد من فضاء علمي (في “المركز”)، ما يمهد لحضور علمي خليق بكبريات الدول في العالم الأول، هذا الذي تسير إليه دولة الكويت في ثقة علمية وأكاديمية وثقافية تتجاوز ما ربما يصادفها في الحياة اليومية من مسارات لدى أهل سلطة أو حكم قد تكون راهنة لكنها حريصة على إبقاء الوجه الإبداعي للكويت منَزّهاً عن كل اضطراب. ولعلّ هذا ما يجعل العمل في القطاع الإبداعي ناشطاً في ثبات، كما لاحظتُ من زيارتي الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية ومعروضاتها ومعارضها، ومتحف الفن الحديث وكنوزه رسماً ونحتاً.
ومن جلساتي الى المسؤولين في بعض الصحف (“القبس”، “السياسة”، “أوان”) وعيت، أكثر، كم أن الجهد كبير لا في مجرد العمل الصحافي أو الإعلامي، بل في سباق الذات مع الذات من أجل أداء أفضل يؤدي الى تنشئة فضلى تكونُ ذخر المستقبل.
وبين أقصى الحداثة (مدينياً وعمرانياً وبنيةً تحتية تتكامل) وأقصى التراث الإسلامي (كما غنمتُ من زيارتي “متحف رجب”) أعود الى بيروت المضطربة بأحداثها وأنا على يقين متزايد بأن الدول الصغيرة (كالكويت ولبنان) لا خلاص لها بالعددية بل بالنوعية، ولا بالكثرة بل بالجودة التي وجدتُ لها في الكويت كنوزاً من ضياء.