لوحة من أَجل… غراب
“الغراب”: اللوحة الكاملة
هي من أَشهر لوحات الفرنسي كلُود مونيه (1840-1926)، يَبرز فيها شاعريًّا نُور خاص في مناخ شتائيّ قارس. كأَنها سمفونيا يتماوج فيها اللونان العاجي والرمادي، وفيها ملمحٌ خاص ما زال النقَّاد حتى اليوم يحاولون تفسير سحره اللونيّ الجميل الذي لا ينحصر في الشتاء وحده ولا في أَيٍّ معيَّنٍ من الأَربعة الفصول.
مونيه المؤَسس
المعروف عن كلود مونيه أَنه مؤَسس الانطباعية الفرنسية في ستِّينات القرن التاسع عشر. ظهر أُسلوبه القائم على السرعة والتقاط اللحظة قبل تغيُّر النور والظلّ في المكان الذي يجلس فيه الرسام كي يكتب على قماشته البيضاء خطوطه والأَلوان. فإِذا بذاك الأُسلوب يغيِّر ما كان سائدًا فترتئذٍ في الفن الغربي.
بعد عقودٍ من رفْض المجتمع تيارَ الانطباعيين الفرنسي، شقَّ التيار طريقه في صفوف الناس فأَحبوه وراحوا يزورون المعارض التي تقدِّم لوحات انطباعية. وما زال لـرواد المعارض حتى اليوم، بعد نحو 160 سنة على ولادة التيار، ميل إِلى تلقُّف الأَعمال الانطباعية الجميلة.
لوحة “الغراب”
من تلك الأَعمال الخالدة لوحة مونيه “الغراب” (تحديدًا: العُقْعُق، وهو طيرٌ أَسْوَد من الفصيلة الغرابية، له بُقَعٌ بيضاء في أَجزائه السفلى وأَطراف جناحيه الأَسْوَدَين، وذيله طويل موشَّح بلون أَخضر برونزي لامع). ومونيه رسمَها في مكان مغطَّى بالثلج كليًّا ما يجعل للَّوحة حنانًا خاصًّا ولمسات من البرد الذي يلفُّ الطير الصغير.
فترة الرسم هي بين 1868 و1869. واللوحة زيتية على قماشة مشدودة، طولها 130 سنتم، وعلُوُّها 89 سنتم، بما يجعل علُوُّها نحو ثلثَي طولها، وهو قياس ذو تأْثير على المضمون الغارق في بياض الثلج. وفي اللوحة حافةٌ صخريةٌ خفيض تقسم اللوحة إِلى مساحتَيْن أُفُقيَّتَيْن متساويَتَيْن: المساحةُ السفلى تحت الحافة في المقدمة، والمساحة العليا فوق الحافة تشكِّل خلفية اللوحة. وبين تينك المساحتين يجثم الغراب الصغير الأَسْوَد والرمادي على بوابة خشبية إلى يسار اللوحة. في خلفية اللوحة إِلى اليمين وراء الحافة بيتٌ بين أَشجار الصنوبر والسنديان. ويُرخي الطير مع الحافة والشجر ظلالًا على الثلج في مقدمة اللوحة، ما يضفي عليها حركةً هادئةً ضمن اللحظة الجامدة. ولعل نعيبَ الطير الـمتَخَيَّلَ هو الذي يكسر هذا الصمت الثلجي الكثيف.
الخط الأَحمر يفصل أُفقيًّا مساحتَي اللوحة بين أَعلاها وأَسفلِها
إِتْــرُتا
مكان اللوحة هو في إترُتا Étretat المدينة الشاطئية التي تبعد نحو 80 كلم شماليّ غرب مدينة رُوان، ونحو 200 كلم شماليّ غربيّ باريس. كان مونيه يتردَّد غالبًا على هذه المدينة، لأَنه كان يحب فيها جُرفها الصخري البحري. كما كان يحب مشاهدها الداخلية وما يكثُر فيها، تَـمايُـزًا عن سواها، من طيور ثلجية بينها الغراب. وصدف أَن كان فصل الشتاء سنتَي 1868 و1869 ثلجيًّا فائضًا عن المأْلوف، فأَفاد منه مونيه ليضع هذه اللوحة المميزة: الحافة الصخرية البنيَّة كانت مغطَّاةً بالثلج، الأَشجار كأَنها تماثيل من جليد، والأَرض سجادة بيضاء. وأَضاف مونيه عليها عمقًا آخر برسمه ظلالًا كثيفةً وملامحَ من الأَزرق والرماديّ.
السحر في اللوحة
اشتُهر مونيه بلوحاته عن المناظر المائية وخصوصًا زنبق الماء. لذلك لم تشتهر في الناس لوحاتُه الثلجية كلوحة “الغراب”. على أَن قلة الاهتمام هذه لا تقلِّل من براعة مونيه في تلك اللوحات الشتائية والثلجية، فهو عُرفَ بما يضفيه على لوحاته من نور فوق المياه، لكن النور الذي أَضفاه على الثلج كان فعلًا عملًا ساحرًا، بفعل انعكاس نور الجو من فوق على الأَرض تحته، انطلاقًا من أَن الثلج هو الماء تجمَّد، لذا يقترب انعكاس النور والظل فيه من النور والظل فوق الماء. وإِن كان الثلج الكثيف الصلد جامدًا لا يتحرك كجري الماء، فعلى الثلج تتلأْلأُ أَنوار صغيرة تجعل من قشرته المسطحة مهرجان لآلئ لا تعود الأَرض معها جامدة بل متموِّجة متحركة.
الغراب الصغير
يلفت في وسط اللوحة غراب صغير جاثم على بوابة خشبية فوق الأَرض الثلجية. وهو ضئيل جدًّا وسط حافة متَّسعة وبيت كبير وأَشجار عالية. لكن ضآلة جسمه تعطي اللوحة نكهة خاصة كأَنما هو محورها الأَساس، لأَنه يعطي الانطباع الواضح للمقاييس والنسب في بناء اللوحة. فالرائي، من ضآلة جسم الغراب، يمكنه أَن يشعر بكثافة الثلج وعلوِّ الأَشجار.
وذهب نقاد إِلى وصف الغراب كأَنه نوطة صغيرة على صفحة مؤلِّف موسيقي. والدرجات الخشبية الخمس في البوابة كأَنها أَسطر التأْليف على تلك الصفحة الموسيقية، فكأَنما مونيه شاء أَن يعطي لوحته نكهةً موسيقية على وقْع نعيب الطير.
لجنة مجحفة ومتحف نبيل
حين قدَّم مونيه لوحته هذه إِلى معرض باريس 1869، رفضتْها لجنة المعرض إِذ رأَتها شاحبة وبطيئة، وليس لها المعيار الأكاديمي الكافي لتُعرَض، بل هي كأَنها مخطَّط لوحة لم تكتمل بعد.
لكنّ اللوحة نالت حقها الكامل حين اشتراها متحف أُورسيه في باريس سنة 1984 وأَضافها إِلى مجموعته من روائع الفن الانطباعي. وعلى عكْس معرض 1869، بات رواد المتحف يحبُّون هذه اللوحة، وبفضلها يقدِّرون مونيه أَكثر، خصوصًا أَنها، ببراعة ريشة مونيه، تقترب من الصورة الفوتوغرافية. من هنا أَنها لوحة عن الثلج خالدة، انتشرَت في الآلاف من البطاقات البريدية التي يرسلُها الناس معايدةً في فترة الميلاد.