ثلج أَبيض بأَبيض الريشة على القماشة البيضاء
كايبوت اللوحة الكاملة (1978)
إِنه زمنُ الثلج، غالبًا ما يرافقُ زمن الميلاد شرقًا وغربًا. وتتعدَّد مظاهره وتظاهراته تقاليدَ وطقوسًا. وإِذا كانت الريشة تناولَتْه في يد عدد كبير من الرسامين المكرَّسين، فهو أَيضًا موضوع لوحات عدة في غير الزمن الميلادي ليعطي الشعور بالبرد أَو بالشتاء أَو بموسم المطر.
بين من تناولوا هذا الموضوع في إِحدى أَجمل لوحاته: الرسام الفرنسي غوستاف كايْبُوتCaillebotte (1848-1894).
فماذا عنه وعن لوحته “سطوح باريسية تحت الثلج”؟
وفاته المفاجئة صادمة
في الحادي والعشرين من شباط/فبراير 1894 كانت باريس تودِّع رسامًا في ربيعه الخامس والأَربعين، سقط بانفجار دماغي بينما كان يرسم لوحة في حديقته التي وضع منها لوحات كثيرة أَبرزها تلك التي رسَم فيها القوارب. كانت جنازته حاشدة، واكتظَّت كنيسة سيدة البشارة (الدائرة 9 من باريس) بأَصدقاء الرسام آسفين على انكسار العمر به وهو في عز الربيع. ورافقوا جثمانه إِلى مقبرة “الأَب لاشيز” غير بعيد عن ضريح دولاكروى.
كان غياب كايبوتّ صدمةً للانطباعيين الذين خسروا به “زميلًا ورائدًا”. يومها الرسامُ كميل پيسارو كتب في رسالةٍ إِلى ابنه: “خسرنا اليوم صديقًا غاليًا، نبكي موهبته بحرقة عميقة”.
غوستاف كايبوتّ الريشة العبقرية
انكشاف موهبته لاحقًا
طويلًا بقيَت موهبة كايبوتّ غائبة عن الجمهور إِلَّا في الولايات المتحدة، فلم يكن معروفًا عنه أَكثر من أَنه “مشجِّع الفن”. وما إِلَّا في سبعينات القرن الماضي حتى اشتهرت أَعماله بفضل هواة اللوحات الأَميركيين. ولم تصل هذه الشهرة إِلى الجمهور الفرنسي إِلَّا في تسعينات القرن الماضي، فأَخذَت تتعدَّد معارضه الاستعادية، ودخلَت لوحات له إِلى متاحف كبرى كـ”متحف أُورسيه” الشهير الذي يحتضن اليوم رائعته الخالدة “سطوح باريسية تحت الثلج” (1878).
تفصيل من اللوحة
الانطباعيُّ المتفرِّد
في إِحدى يومياته كتب: “كان المطر شديدًا ليلة أَمس، وإِذا الحجارة الجيرية في بيوت باريس تغرق تحت غطاء من الثلج والجليد، وإِذا بالفضاء يدلهمُّ قاتمًا بغُيوم سوداء تناقض بياض البيوت والشوارع. وتحوَّلت باريس من مدينة النور إِلى مدينة الثلج”.
هذا المشهد طبع كايبوتّ فنَهض يرسم لوحته “سطوح باريسية تحت الثلج” جاءت رائعة نادرة عن مشهد نادر في باريس. وكان كايبوتّ رسامًا فرنسيًّا انطباعيًّا رائدًا، زميلًا ومعاصرًا أَعلام انطباعيي عصره: كلود مونيه (1840-1926)، أُوغست رُنوار (1841-1919)، كميل پيسارو (1830-1903). عاش معظم حياته في باريس وبعض ضواحيها، يستمد مواضيعه من مناظرها ومشاهدها. سوى أَنه انفرد عن زملائه الانطباعيين الرومنطيقيين بإِيراده الواقعية الموضوعية في لوحاته، فلم يوشِّح أَعماله بالرومنطيقية بل تعمَّد في أَلوانه مسحة واقعية. فما في كل مشهد جمال وبهاء بل في بعضها قسوة وبشاعة، لأِن الحياة ليست سلسلة من المشاهد الجميلة. ومن هذه الواقعية “غير الجميلة” وضع لوحات عدَّةً، بينها “سطوح باريسية تحت الثلج”.
تفصيل ثانٍ من اللوحة
تقنية “السُطُوح”
في تفاصيل هذه اللوحة المتعدَّدة المناظر، صباح باريسي جليديّ. واضح أَنَّ الرسام وضعها وهو في مكان مرتفع قد يكون مبنى عاليًا في قلب باريس. ويرى الناظر إِليها حيًّا بكامله غارقًا تحت الثلج، إذ راح الرسام يضع الطبقة فوق الطبقة من الأَبيض كي يوحي بسماكة الثلج على السطوح وعلى النوافذ المغلقة وأَعمدة المداخن، حتى ليكاد يختفي كل تفصيل آخر من حجارة البيوت. وهو ما يلغي عن العاصمة الجميلة جمالها المعروف، ويجعلها مدينة عادية كأَي مدينة ثلجية أُخرى في فرنسا أَو في سائر العالم.
التضادُّ في الأَلوان
تعتبر هذه اللوحة من روائع المرحلة الانطباعية. وقد تكون أَلوانُ فضائها الواسعِ الغامقةُ المدلهمةُ المتجهمةُ نادرةً بل فريدة في سائر الأَعمال الانطباعية. فالرسام كثَّف فيها طبقات اللون الرمادي ليوحي أَكثر بالثلج السميك والغيوم المتلبِّدة، ما انعكس قَتامةً إِضافية على البيوت والواجهات والأَزقَّة بين البيوت. وحتى في مقدمة اللوحة تتكثَّف الطبقات اللونية الغامقة على الأَبنية آخذةً طابعها الغامق من الفضاء المحيط، ما أَعطى سائر اللوحة توازُنًا في الشكل بين الأَبيض والرمادي، وفي المضمون بين مقدمة اللوحة وسائر أَجزائها. من هنا التعاكسُ والتضادُّ بين الأَسْوَد وبياض الثلج. وما يبدو متطاولًا في أَعمدة المداخن، يتناقض مع الأُفقيات المنتثرة في أَبيض الثلج، فينزع الرتابة عن جوِّ اللوحة العام، إِذ تتدرَّج الأَلوان بين الأَسْوَد فالرماديِّ فالأَبيض، تماامًا كما قد يظهر في صورة فوتوغرافية من زمان الأَبيض والأَسود، وتتضادُّ فيها بُقَع الأَبيض والأَسْوَد، القاتم والفاتح، ما يعطي الصورة الإِحساس بالعمق واللمعان والركود معًا.
صورة عن باريس الجديدة
في الخاصة يمكن اعتبار هذه اللوحة النادرة الإِبداع النقْشي صورةً عن باريس الحديثة في أُسلوب قديم. فمخططات باريس التي نعرفها اليوم وضعها البارون هوسمان (1809-1891) بتكليف من نابوليون الثالث بين 1853 و1870، فهدم قسمًا كبيرًا من شوراعها وأَحيائها، وبنى مكانها هندسة أُخرى، ما يجعل منظر باريس بريشة كايبوتّ صورة استعادية لــ”تلك الباريس” التي أَشرقت بعد هوسمان من مدينة مكتظَّة ذات أَحياء متلازَّة غيرِ صحِّية إِلى مدينة حديثة متفرقة البيوت لا مكتظَّة ببشاعة، رسمَها كايبوتّ ببراعة كما بقيَت على شكلها زمانًا طويلًا بعدذاك.
هكذا تظهر ملامح هوسمان في لوحة كايبوتّ (1878) فإِذا باريس هوسمان بهيةٌ ولوحة كايبوت تعكسها بأَمانة في هندستها الحديثة، وأَبدعَ كايبوتّ في إِطلاعها ذاتَ أَبنية حديثة في جو مدلهمٍّ قديم. وهنا عبقريته بِريشته الفريدة.
ويا ما في لوحات الفنانين الخالدين من مناظر كرَّسَت مدُنًا ما كان يمكن أَن نعرف كيف كانت وكيف تطوَّرت لولا تلك اللوحات الخالدة.