الكلمة الأَحَبّ
ما الكلمة؟ مُجرَّد حروف؟ مضمونٌ ذو مدلول؟ شكلٌ ذو جمال؟ رمزيةٌ ذاتُ دلالة؟
للكلمة موقعٌ في الذات هو غيرُهُ في السوى. ترتبط بقارئها أو قائلها ارتباطاً ذا علاقة خاصة بأسباب ذاتية تختلف بين شخص وآخر.
كلمةٌ معيّنة بالذات: ماذا تعني لك؟ بِمَ توحي إليك؟ لماذا استخدامك إياها أكثر من سواها؟ لماذا تتكرّر في كتاباتك؟
هذه السلسلة: “الكلمة الأَحَبّ”، أسئلةٌ نطرحها على المعنيّين بالكلمة كي نصل الى خلاصة تحليلية عن اللغة ومدلول اللغة و”لغات اللغة” انطلاقاً من الوحدة الأولى الأساسية التي هي الكلمة.
بعد اثنين وثلاثين جواباً من وليد غلمية وعبدالله نعمان وإملي نصرالله وأمين ألبرت الريحاني وجوزف أبي ضاهر وسلوى السنيورة بعاصيري وجوزف جبرا وزهيدة درويش جبور ومي منسّى وهدى النعماني وغالب غانم ومحمد بعلبكي وهشام جارودي وألكسندر نجار وجورجيت جبارة وغازي قهوجي وسمير عطالله وإلهام كلاّب البساط وأنطوان مسرّة وفاديا كيوان وريمون جبارة وسلوى الخليل الأمين وندى عيد وهنري العويط ومنير أبو دبس وندى الحاج ونجوى نصر وهناء الصمدي نعمان ووردة زامل ونُهاد نوفل وكريستيان أُوسّي وفؤاد الترك، هنا الجواب الثالث والثلاثون من الشاعر شوقي بزيع.
هنري زغيب
email@henrizoghaib.com
_____________________________________________
_________________________________________________
______________________________________________________
33) شوقي بزيع: الحنين
الأربعاء 9 شباط 2011
إن صعوبة الإجابة عن سؤالٍ كهذا، تكمُن في إعطاءِ صيغةِ التفضيل صفةَ الإطلاق، بحيث يتعيّن عليَّ أن أختار كلمة أعتبرها “أحَبّ الكلمات إلى قلبي”، وليست “مِن أَحَبّ” الكلمات إليّ.
وإذا كان لكلّ شاعر قاموسُه الشخصي وحقلُ مفرداته الأثير، فحديقةُ الشاعر لا تتألّف من زهرةٍ أو نبتةٍ واحدة، بل من أنواع مختلفة من الزهور والنباتات.
مع ذلك، إن كان لا بدّ من إجراء تصفية قاسية على قاموسي الشعري الذي تشكّل الطبيعة مادّته ونسيجه وظهيره الأبرز، فإنني أعتبر كلمة “الحنين”هي الأقرب إلى نفسي، لا لأنها تتكرّر كثيراً في عناوين قصائدي كما في ثناياها فحسب، بل لأنها الكلمة الأكثر تجسيداً روحَ الشعر وجوهرَه ومعناه.
فما الشعر إن لم يكن المحاولة الدّؤوب والمستحيلة لاستعادة ما خسرناه من طفولة العالم وبراءة الروح ولمعان الفراديس التي انصَرَمَت إلى غير رجعة!
ليست الحياة بهذا المعنى سوى تَلَفُّتٍ بالعين أو بالقلب، وفق الشريف الرضيّ، إلى مربَّع الهناءة الأول حيث الزمان الطازج والسحر الغامض للأيام المطمورة.
هكذا تصبح كلُّ لحظة طلاءً للّحظة التي تجيء بعدها، ونصبح نحن أحفاد أنفسنا، تلفحنا دائماً تلك الرياح المشْبَعة بالحنين إلى حيواتنا السالفة التي لا سبيل إلى استرجاعها بغير الشعر.
الحنين هو قلبُ الشعر وعصَبُه وقوامُه.
ونحن نترنَّح بين أطياف الماضي الذي لن يعود، وأطياف المستقبل الذي لم يَحِنْ أوانه، ونَحِنُّ إلى كلٍّ منهما بالقدْر نفسه.
ونحن لا نَحِنُّ إلى الحاضر لأنه متحقّقٌ ومُمْتلَك.
ولأنه كذلك، هو نثر الحياة، بينما الشعر يتأرجح كرقّاص الساعة بين الماضي والمستقبل.
وإنني اخترتُ الحنين لأنني دائم التَّشبُّث بأهداب ما كنتُه، بدءاً من مسقط الرأس وترابه القديم، وأنا ابن برج الجدي، مروراً بالمنازل الأُولى والحبيبات الأُولَيَات، وانتهاءً بقصاصات الأوراق والبطاقات الرّثة التي دوَّن فوقها الأحبةُ والأصدقاءُ ملاحظةً أو انطباعاً أو تحيةً عابرة.
وأخيراً…
حين اخترتُ لابنتي البكْر اسم “حنين”، كُنتُ أكسو الكلمة التي أُحِبُّ بلَحْم الحياة ودمِها الحقيقيَّيْن، وأُحَوّلُها إلى أيقونةٍ حقيقيةٍ معلّقةٍ فوق أَكثر الأماكن صلةً بالقلب.
___________________________________________
*) الأربعاء المقبل- الحلقة الرابعة والثلاثون: العميد أَسعد مخول