بشارة الخوري: من تلَّة أنطلياس المحلية إِلى قمة حرمون العالَمية
مبدعان لبنانيان عالَميَّان: غبريال يارد وبشارة الخوري
خوفًا من تدهور الحالة الأَمنية سنة 1979، حين قرَّر تسفيرَه أَهلُهُ: والدُه الشاعر المحامي عبدالله الخوري (عبدالله الأَخطل) ووالدتُهُ سلوى الرحباني (شقيقة عاصي ومنصور والياس الرحباني)، كانا حتمًا يحدُسان بأَنه من باريس سينطلق إِلى فضاء العالمية الأَوسع بمؤَلفاته الموسيقية التي تعزفها اليوم كبريات الأُوركسترات الفيلهارمونية العالَمية على أَكبر مسارح أُوروبا مع أَعمال كبار المؤَلفين الموسيقيين الخالدين.
هي هذه مسيرة المؤَلف الموسيقي الكلاسيكي اللبناني الفرنسي بشارة الخوري في مسيرته الإِبداعية إِلى قمم الشهرة العالَمية انطلاقًا من تلَّة أنطلياس حيث ولد سنة 1957 ودرس الموسيقى على أُستاذه الخاص هاغوب أَرسلانيان، وكان سنة 1973 قائد كورس كنيسة مار الياس – أنطلياس.
صورة رحبانية نادرة.. من اليمين: سعدى (أُمّ عاصي)أَمامها بشارة، منصور الرحباني يحضن أَبناءَه (مروان، غدي، أسامة) وإِلى يمينه زوجتُه تريز.
القصيدة “الأَلـپـيـة”
في أُمسية استثنائية مساءَ الخميس الماضي (14 الشهر الجاري) شهِدَ أُوديتوريوم لِــيُــون الفرنسي ولادةَ “كونشرتو للبوق والأُوركسترا” لــبشارة الخوري (17 دقيقة) بقيادة الدانماركي نيكولاي زنايدر Znaider (مدير أُوركسترا لِــيُــون الوطنية) مع غِيُّوم تيتوTétu عزفًا منفردًا على البُوق. عنوان الكونشرتو “قصيدة كُبرى أَلْــپـــيَّــة نحو غارميش”: أَلــپــيــة نسبةً إِلى جبال الألْپ، وغارميش مدينة ثلجية في الجهة الباڤارية من الأَلپ (جنوبيّ أَلمانيا، قريبة من حدود النمسا). شاء الخوري هذا الكونشرتو تكريمًا لذكرى المؤَلف الموسيقي الكلاسيكي الأَلماني وقائد الأُوركسترا ريتشارد شتراوس (1864-1949) الذي كان أَمضى سنواته الأَخيرة في تلك المدينة الجبلية التي لم يَــزُرها الخوري بعدُ ويتمنى “الحجَّ نحوها”، لأَنه يعتبر شتراوس “معلِّمَه ومثالَه” في التأْليف الموسيقي المعاصر.
في ثنايا الكونشرتو لم يصف الخوري المشهد في غارميش بل حاول، عبر الكتابة للبُوق، أَن يصوِّر الحالة النفسية في العزلة والانفراد كما عاشهما رائدُه شتراوس. وهو تعمَّد في كونشرتو “نحو غارميش” أَن يكتب لآلة البوق كلَّ ما يمكنها أَن تُصدر من أَنغام، متَّكلًا على براعة عازفه المفرد غيُّوم تيتو المعتَبَر حاليًّا أَفضل عازف بوق في جيله، سواء في عزفه منفردًا مع الأُوركسترا أَو في مجموعات موسيقى الحجرة. وكان بشارة صرَّح أَكثر من مرة بأَن شتراوس هو الذي حبَّب إِليه الكتابة لآلة البُوق، ولذا كتب سنة 2007 “كونشرتو للبُوق والأُوركسترا” عنوانُهُ “الجبل القاتم”.
بشارة الطفل في حضن جدِّه الشاعر بشارة الخوري (الأَخطل الصغير)
من أنطلياس إِلى حرمون
وبشارة، منذ صباهُ في انطلياس، لا يكتفي من تأَثُّره بشتراوس. فها هو يُنجز حاليًّا كتابة كونشرتو للأُوركسترا بعنوان “جبل حرمون المقدَّس” في 25 دقيقة بتكليف من “راديو فرنسا” (باريس) ليصار إِلى عزفه العالَمي الأَول مساءَ الخميس 18 نيسان/أَبريل 2024 في أُوديتوريوم “راديو فرنسا” لتعزفه “أُوركسترا فرنسا الوطنية” مع 105 عازفين.
ومن كونشرتو “حرمون”يتَّضح أَن بشارة الخوري إِذ غادر لبنان قبل 44 سنة لم يغادره لبنان أَبدًا. لذا كتَب عنه وفيه أَكثر من مقطوعة عزفَتْها له كُبرَيات الفرَق الأُوركسترالية العالَمية، لأَنه يرى نبضه الموسيقي طالعًا من وطنه المعذَّب الذي شهِدَ حرائقه في شبابه قبل أَن يغادره نهائيًّا إلى فرنسا.
باريس الانطلاقة…
بوصوله إِلى باريس (1979) ودراسته على بيار بُتي Petit أَثبت سريعًا حضوره مؤلِّفًا موسيقيًّا لافتًا، في وسطها الباريسي الموسيقي العالي، وكان عاشه باكرًا في لبنان بين السمفونيات الروسية والأَلمانية الكُبرى مع تشايكوڤسكي وشوستاكوڤيتش وبيتهوڤن وبرامز. لكنه منذ المطالع انبَهَرَ خصوصًا بأَعمال الأَلماني ريتشارد شتراوس (لا علاقة له بأُسرة شتراوس الموسيقية النمساوية). وكان انبهاره بموسيقاه ساطعًا ومؤثِّرًا منذ حضَر له “أُوپرا إِلِكْترا” (من فصل واحد وضعها سنة 1909). وراح نجم اللبناني الشاب يسطع في باريس، وأَخذت كُبريات الأُوركسترات الفرنسية والأُوروبية تعزف من أَعماله (أُوركسترا فرنسا الوطنية، أُوركسترا لندن السمفونية، أُوركسترا باريس، أُوركسترا موسكو الفيلهارمونية وسواها، في كبريات دُور الأُوپــرا التي تقدِّم أَعمال كبار المؤَلفين الموسيقيين الخالدين، منها مسرح الشانزيليزيه، صالة پلايــيــل، صالة راديو فرنسا في باريس، صالة باربيكَن في لندن، وسواها.
قصيدتُه السمفونية: “لبنان في اللهَب”
…وبقي في قلبه لبنان
لم تقصِّر بيروت بتكريمه. فاحتفاءً ببُلوغه الستين (2017) قدَّمت “الأُوركسترا الوطنية الفيلهارمونية اللبنانية” أَعمالًا من تأْليفه، بتنظيم من “مركز التراث الموسيقي اللبناني”. وكانت حرائق بيروت في ضميره حين وضَع سنة 1985 سمفونيا “خرائب بيروت”. وسنة 1994 منحتْه “المؤَسسة اللبنانية للإِرسال إِنترناشيونال (LBCI) “جائزة الفنون والثقافة”. وسنة 2001 نال وسام الأَرز اللبناني من رتبة فارس. وكان سنة 1983، في مئوية ولادة جبران خليل جبران، كتب مجموعة مقطوعات عزفتْها له أُوركسترا كولونّ بقيادة بيار ديرڤو في مسرح شانزيليزيه.
أَعمال… أَعمال… ونجاحات
لا تُحصى أَعمال بشارة الخوري ونجاحاته… من كثيرها أَقتطف أَنه سنة 2000 نال “جائزة روسيني” من “أَكاديميا الفنون الجميلة” في فرنسا، وسنة 2003 بلغ نهائيات المسابقة الدولية للتأْليف الأُوركسترالي في لندن على مقطوعته “الأَنهار الغائرة”، وسنة 2006 أَصدرت “أُوركسترا لندن الوطنية” أُسطوانة له تحمل مقطوعتَين: “دموع نيويورك” و”الأَمل” تأَثُّرًا بضحايا 11 أَيلول/سبتمبر في كارثة برج التجارة العالمي في نيويورك. وسنة 2015 عزفت له أُوركسترا ستراسبورغ الفيلهارمونية كونشرتو للفلوت والأُوركسترا “أَلوان بعيدة”، وفي السنة ذاتها منحَــتْه شركة المؤَلفين والملحنين (ساسيم) درجة “عضو شرف”. وسنة 2018 عزفت له “أُوركسترا إِيل دو فرانس للشبان” مقطوعته “نشيد النور للسيدة العذراء” للتشيلو والأُوركسترا ، وفي السنة ذاتها وُلدَت سمفونياه الثانية على مسرح منظمة الأُونسكو في باريس.
لبنانيّ عالَميّ
بشارة الخوري، أَعماله اليوم باتت عشراتٍ كثيرةً بين مقطوعات وكونشرتوات وسمفونيات، يطول تَعدادها وليس هنا مكانها.
هذا المقال ليس سيرةً ولا مسيرةً بل تحيةٌ لهذا اللبناني المبدع: بلغَ العالَمية متكرِّسًا للموسيقى من الموسيقى عن الموسيقى في الموسيقى، لا يعرف أَيَّ دُربة سواها.. وهنا حَظْوَتُه الكبرى: أَن تكونَ الموسيقى دنياهُ الأَجمل، وأَن يحيا هانئًا في جمال دنياه.