ماريا فارو: الريشة السوريالية المنسية
ماريا في لقطة فوتوغرافية
اشتهرت ماريا فارو Varo (1908-1963) متفردةً بين أَبرز الرسامين السورياليين في القرن العشرين. ولدت في إِسبانيا وهاجرت قسرًا إِلى فرنسا فمكسيكو هربًا من الحرب الأَهلية الإِسبانية (1936-1939) والحرب العالمية الثانية (1939-1945). وكان هربها فرصة لها كي تتعرف بمجموعة رسامين سورياليين أَبرزهم الشاعر الدادائي بنجامان پـيريه (1899-1959) والرسامة البريطانية ليونورا كارنغتون (1917-2011).
تركَت ماريا أسئلةً في كلٍّ من لوحاتها التي لم ينكشف منها أَيُّ سرٍّ عن ظروف وضعهاـ ولا عمَّا فيها من معانٍ وشروح. من هنا أَن أَعمالها نافذة على عالم من الأَسرار الغامضة.
فماذا عنها؟
الثائرة منذ صباها
ولدَت ماريا ريميديوس رودريغا سنة 1908 في بلدة أَنْغْلِس الكاتالانية (مقاطعة جيرونا الإِسبانية). والدها مهندس علَّمها منذ طفولتها مبادئ الرسم، فنشأَت تزاول المخططات مع تمرُّسها في الزيتيات. وكما بدايات معظم الرسامين، بدأَت ترسم أعضاء من عائلتها وعددًا من رسومها الذاتية منذ هي في الخامسة عشرة، ما دلَّ باكرًا على موهبتها رسامة واثقة.
قرأَت في صباها أَعمال أَلكسندر دوما وجول فيرن وإِدغار آلِن پـو، فتوسَّعت مخيلتُها للأَعمال السوريالية في ما بعد.
كانت والدتُها كاثوليكيةً تقيةً مؤْمنة، فثارت ماريا منذ صباها على تلك التربية الكاثوليكية، وراحت تهتم بكل ما له علاقة بالسحر والخيمياء والتنجيم والميثولوجيات والعلوم. وانتسبَت إِلى معهد الفنون والحرَفيات ثم إِلى الأَكاديميا الـمَلَكية للفنون الجميلة (تأَسست سنة 1726) في سان فرناندو (مدريد).
باريس وتفتُّح أَعمالها
مع أَن شهرتها أَشرقت في مكسيكو، إِلَّا أَنَّ مطالع إِنتاجها في أوروبا بدأَت مع مرحلتها السوريالية في باريس التي انتقلت إِليها سنة 1931 قبل أَن تعود منها إلى برشلونا. أَمضت فترة في مدريد مترددة على متحف پرادو، وتعرَّفت بالشاعر فِدريكو غارسيا لوركا (1898-1936) والرسام سلفادور دالي (1904-1989) والمخرج السينمائي لويس بُونُويل (1900-1983) وعدد من الفنانين السورياليين. سنة 1930 تزوَّجت من الرسام السوريالي جيراردو ليزّاراكا (1905-1982) لكنها طلَّقتْه بعد فترة قصيرة.
زاولت ماريا عددًا من الأَنماط والأَشكال الفنية والتقنيات، وشجَّعت زملاءَها على خلق الجديد غير المأْلوف بتنظيمها لهم ندوات وَوُرش عمل.
خلال الحرب الأَهلية الإِسبانية وتحت سيطرة فرنكو الإِستبدادية، عادت ماريا إِلى فرنسا مع زميلها وشريكها الرسام السوريالي بنجامان پـيريه، فعاشا معًا في باريس ومرسيليا. وفتحت لها هذه الزمالة فرصة العيش وسط مجموعة السورياليين في باريس، وزارت متحف اللوفر عشرات المرات وكانت ضالعة في حركات التنجيم والسحر. وفيما كانت النساء منبوذات من تلك المجموعة الباريسية على أَنهنّ “نساء في الطفولة”، ولم تستقبل تلك المجموعة نساء بين رجالها، نجحت ماريَّا بموهبتها وشخصيتها في “اقتحام” تلك المجموعة لتصبح عنصرًا بارزًا وناشطًا فيها. وأَكثر: شاركَت في منشوراتها ومعارضها، ومن هذه الأَخيرة اشتراكُها سنة 1938 في المعرض الدولي للسوريالية في “غالري الفنون الجميلة” (باريس)، عارضةً لوحاتها مع سلفادور دالي وماكس إِرنست (1891-1976) وسواهما من كبار السورياليين.
لوحة “زيارة غير متوقعة” (1958)
الهرب إِلى المكسيك
انتهت إقامتُها في باريس عند اجتياح النازيين العاصمة الفرنسية، بعد توقيفها وزميلها پيريه، فهربت إِلى مكسيكو سنة 1941.
كانت ماريا بين آلاف الإِسبان اللاجئين إِلى مكسيكو في مطالع الأَربعينات. وهناك، في العاصمة المكسيكية، وضعت أَهم أَعمالها، مواصلة نهجها السوريالي، في لوحات تتضمَّن الكثير من ملامح السحر والأَحلام والتنجيم واللاوعي والصوفية وسواها من الغرابات التي لم تقتصر على لوحاتها وحسْب بل على نمط حياتها اليومية. وفي مكسيكو بدأَت منذ 1955 تشارك في معارض جماعية حتى تسنى لها أَن تقيم معرضًا فرديًّا سنة 1956 في “غالريا ديانا” (مكسيكو سيتي) فبيعت جميع لوحاتها وتم وضع رواد كثيرين على لائحة الانتظار لمعرضها التالي سنة 1958.
لوحة “ولادة العصافير” (1957)
ماريا – إِليونورا – كاتالينا
في منفاها المكسيكي تعرَّفت بالرسامة الإِنكليزية إِليونورا كارنغتون، وكانت قبلُ التقتها في باريس، فتوطَّدت علاقتهما في مكسيكو، وراحتا تواصلان في عملهما النهج السوريالي، وتعيشان معًا في المحترف ذاته. وفي مكسيكو توطَّدت علاقتها كذلك بالمصورة الفوتوغرافية السوريالية الهنغارية كاتالينا هورنا (1912-2000) وهي التقطَت مجموعةً من الصوَر لماريا وإِليونورا.
توفيت ماريا بنوبة قلبية مفاجئة سنة 1963 عن 55 سنة بسبب إِدمانها الفاجع على التدخين، فأُصيبت زميلتها إِليونورا بصدمة وانهيار عصبي خطير.
وما زالت أَعمال ماريا موزَّعة في بعض المتاحف، إِنما لم تحظَ حتى اليوم بما تستحقُّ من دراسة عن أَعمالها السوريالية التجديدية التي لم يفكَّ أَيُّ ناقد بعدُ غُموضَ ما فيها من أَسرار وغرابات.